icon
التغطية الحية

الأجندة.. رواية تحكي كيف انكسرت الثورة قبل بدايتها

2021.01.28 | 00:14 دمشق

dfffghsh909.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا تتحدث رواية " الأجندة" لكاتبها إبراهيم كوكي، عن الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس عام 2011، إنما تعود بنا إلى ما قبل ست أو سبع سنوات إلى الوراء (حوالي 2004 إلى 2010) ساردة لأحداث لم تنته حتى اليوم، وبقيت في ذاكرة السوريين تضعهم أمام تساؤلات لم يصلوا إلى إجابات شافية عنها.

يعود بنا إبراهيم كوكي إلى أحداث حملت معها كثيرا من التفاصيل في سوريا ولبنان، ووصل صداها إلى أبعد مما هو متوقع، لكنّ السوريين وحدهم (أو غالبيتهم) لم يكونوا على دراية كافية بها.

ويحملنا عبر كلماته إلى زمن غير هذا الزمن، إلا أنه متصل به، وبداية دقيقة لما آلت إليه الأمور خلال سنوات الثورة، هو إعادة استقراء لتاريخ قريب وإسقاطه بالإشارات فحسب على واقع مرير نعيشه اليوم، وانكسارات كبرى في أيام معظمنا.

بدأ بنا الكاتب روايته عبر شخصيات من لحم ودم، سارت بالقصة عبر فصول منفصلة ومتشابكة، يعيش القارئ معها لحظة بلحظة، وفكرة بفكرة، وتوجسات ولواعج نفسية، وتضارب في الفعل وردات الفعل إلى درجات كبيرة.

أجندات في أجندة

تدور الرواية حول أجندات كثيرة، هي في الواقع مرتبطة بأجندة واحدة، صفحات تلك الأجندة مربوطة بخيوط معقدة ومشربكة، بالإضافة إلى خرائط وصور ومقاطع مصورة، وأسلحة وسيارات ملغمة، ورجال حليقوا ذقن وأصحاب لحى، وأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، تنتهي جميعها بشكل مباشر أو غير مباشر عند نظام الأسد ومن خلفه.

ومنذ الصفحات الأولى يبدأ القارئ في قراءة كلمات يظن أنه يعرفها تماماً، فقد سمع بها، وعاشها دون أن يعيش تفاصيلها الكثيرة والطويلة، ودون أن يفهم المُراد منها في تلك الأيام المتسارعة.

تمر الرواية على منعطف مهم بالنسبة للجماعات الدينية في سوريا (مثل جماعة زيد والقبيسيات) فقد سُمح لها بتوسيع نشاطاتها المسجدية، خصوصاً في ظل علاقتها الواسعة مع تجار دمشق، وكذلك سُمح للقبيسيات بالانتقال من البيوت إلى المساجد، وما احتوى ذلك من سعي النظام لاحتواء الجماعة في بادرة لم تكن متوقعة، خصوصاً مع الاحتلال الأميركي للعراق، والحديث المستمر عن إمكانية زحف القوات الأميركية نحو دمشق، مع الترويج للجهاد في العراق وسفر آلاف الشباب المتحمس للقتال هناك، وإلقاء القبض على كثير من العائدين منهم وزجهم في المعتقلات والسجون.

لم ينس الكاتب أن يؤكد على أسلوب النظام في فتح المجال لخطباء ذاع صيتهم (مثل أبو القعقاع محمود قول آغاسي)، وانتشرت تسجيلاتهم المصورة أمام المساجد وفي الطرقات، وهم يروجون للجهاد وحمل السلاح ثم اغتيالهم بشكل مفاجئ كما ظهروا.

وكما كانت بيروت ركناً أساسياً من أركان الرواية، كان سجن صيدنايا مسرحاً كبيراً تعيش عليه كثير من شخصياتها أدواراً شديدة الأهمية

وننتقل مع الكاتب إلى سجن صيدنايا العسكري، أهم "المصانع البشرية" لنظام الأسد، والذي يُصّنع به أدلجة، ويحقنها في أدمغة نزلاء السجن، عبر شخصيات اختيرت بعناية لقيادة هذه المهمة، مستخدمين "سلاح الدين والإيمان"، الإسلام والعقيدة، التعذيب الشديد المتواصل على أعمار كبيرة وحتى صغيرة؛ بعضهم في سن المراهقة، وبعد التأكد من جاهزيتهم يفرج عنهم، لينتقلوا إلى مهمات محددة يرسمها "شيخ وقور" (شاكر العبسي وآخرون) يُنفذ ما رُسم له تماماً.

ونسافر معه إلى لبنان، البلد الصغير حجماً ومساحة، والكبير في التعقيد والمشكلات، إلى مخيمات الفلسطينيين، ويذكرنا بأحوالهم، عائداً بنا إلى بيروت العاصمة، حيث يسير موكب رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، ليبقى بعد دقائق فقط مجرد ذكرى تُغير وجه لبنان كله، بعيد انفجار هو الأضخم في تاريخ الاغتيالات السياسية بلبنان، لندخل في تفاصيل التحقيق، وأبرز المتهمين في قضية اغتياله، والذين يتصدرهم النظام السوري، وميليشيا حزب الله اللبناني المدعوم من إيران، وبدرجات أقل دولة الاحتلال الإسرائيلي.

فقد حملت قصة اغتيال الحريري ومجرى التحقيق الذي تحول إلى قضية دولية، ركناً أساسياً من صفحات الرواية، استمرت مع المحقق وسام عيد إلى لحظات شيقة يتابعها القارئ كلمة بكلمة، ومضمناً لأفكار شديدة الأهمية، وكأنك في فيلم فيه لغز معقد، ومحقق بارع، يصل بك في نهاية الأمر إلى الحقيقة إلى أنه في اللحظة الأخيرة يتم اغتياله.

تتحدث الرواية في كثير مما تحتويه عن غازي كنعان وطريقة اغتياله، والصراع بين القبائل العلوية في سوريا، مضمناً لشخصيات من الواقع والخيال، في صراع يصل إلى حد التناقض من البشاعة إلى الإنسانية والمشاعر وإظهار الحب.

وتعود بنا إلى جوامع دمشق وأحاديث الشباب والمشايخ في حلقات القرآن ودروس ما بعد الصلوات، بالإضافة إلى العائلة الشامية المتدينة والملتزمة حاملة معها هموم الأمة الإسلامية، ولحظات إنسانية عفوية متسقة مع ذاتها وصادقة في واقعيتها وأحلامها.

وكما كانت بيروت ركناً أساسياً من أركان الرواية، كان سجن صيدنايا مسرحاً كبيراً تعيش عليه كثير من شخصياتها أدواراً شديدة الأهمية، ونحن نشاهد من مقاعد هذا المسرح ما يدور فيه على مدار أشهر من ما قبل وبعد الاستعصاء الشهير الذي حدث فيه، ناقلاً إلينا شهادات حية وواقعية عاينت وعاشت كل ما جرى هناك لحظة بلحظة، وعذاباً بعذاب، ومناظرة بمناظرة، عبر أسماء حقيقية، انتقلت خلال أيام الثورة إلى مسارح حقيقية في مدن وقرى سوريا، ومارست بذات الطريقة كل ما جرى في السجن ولكن كانت تحمل السكاكين والسلاح والمدافع، ومن خلفها آلاف الشباب الحالم بـ "جنة عرضها السماء والأرض" دون أن يدري فيما قَتل أو قُتل.

كان سجن صيدنايا العسكري، الحدث الأكثر تجلياً للواقع، وقد رمّزَ الكاتب فصول قصته بأبرز أحداث الثورة السورية (الائتلاف الوطني، المجلس الإسلامي السوري، المجلس العسكري، الجبهة الإسلامية، ولاية الرقة، تحرير حلب، أنفاق الغوطة، وغيرها)، بشكل ملفت للنظر.تروي قصة الثورة دون أن تحكيها

لا يمكن سرد كل تفاصيل الرواية في هذه القراءة، حيث يجب أن تُقرأ كاملة حتى يُفهم المُراد منها، وأن يعيش القارئ مع الشخصيات (سامر ومؤمنة، حيدر ونهلة، وسام عيد وشقيقه عمار، مع شاكر العبسي وأبوهريرة، مع راكان ورامي، والبقية).

1032 صفحة هو عدد صفحات الرواية، إلا أنها لم تكن مملة أبداً، بالعكس تقرأ بسهولة وسلاسة ومتعة، بأسلوب ينم عن احتراف (رغم أنها الرواية الأولى التي تُنشر للكاتب)، وهذا يزيد من احترامها.

حملت لغة بسيطة يفهمها القارئ الجديد والمثقف، وإن احتوت بعض العامية، والتي أظن أن الكاتب قصد بها تقريب الصورة قدر المستطاع لنعيش الحدث كما هو.

ربما لم اقتنع تماماً بأن شخصية سجانٍ ومجرم يمكنها أن تحمل في داخلها براً ورحمة وكل مشاعر الحب بالإضافة إلى قراءة شعر نزار قباني وسماع أم كلثوم، كان سقف مثل هؤلاء (بزعمي هو علي الديك أو سارية السواس وأشعار رديئة تُباع تحت جسر الرئيس بحي البرامكة).

كما أنني تعاطفت مع رامي المسكين وأشفقت على سامر المتحول إلى أقصى ما يطيقه التدين وهو يبحث عن أسئلة كثيرة تدور أمامه في لحظات المناظرات التي كان يعيشها.

عشت مثل تلك المناظرات التي أوردها عن سجن صيدنايا، لقد انتقلت جميعها إلى معظم مدن سوريا المحررة بعد الثورة، وإلى ساحات المعارك، وإلى الأسواق، وإلى صفحات الفيس بوك وتويتر، وإلى نظرة الإسلاميين للعلمانيين، وإلى الاتهامات المتبادلة.

وأخيراً تعد الرواية، كتأريخ أدبي شيق، وموجع، لأيام وليالٍ، عاشتها بلادنا، حيث كنا هناك ولم نكن، وأراد الكاتب أن يؤكد أنها تكررت تماماً، ولم تصغ إلى أي صوت عاقل، كان يرفع صوته لينبه، تاركاً الباب مفتوحاً، ليحلل ويستقرأ ما بين السطور، كل منا على طريقته.