الأب السوري والصرصور

2021.04.03 | 06:59 دمشق

6e1af0f8-6699-4ebd-9e09-1f8587f1451e.jpeg
+A
حجم الخط
-A

اجتمع سبعة سوريين ضراغم قشاعم ضياغم مؤمنين، بينهم ملحد (ولا أدري وأحيانًا هات ثلاثة أجوبة)، كل واحد مسبّع الكارات، وعبر البحار السبعة، وعمل السبعة وذمّتها، ورأى الموت بعينيه، وسمع بأذنيه همساته الدافئة، وله مع الموت صور تذكارية، اجتمعوا وشربوا الشاي مصدرين صوت ارتشاف وتشحيط، وأشعلوا لفافات التبغ التي درجوها على أصابعهم، فخرجت صلبة مدوّرة مثل عيدان قصب السكر، الجميع يدخنون، حتى الذي توقّف منهم عن التدخين، يدخن في يوم الاجتماع الشهري، إن لم يكن قرمًا بالدخان، فتصبُّرا على مشقات الاجتماع مع الإخوة الأعداء.

تبادلوا الرأي في أهم القضايا ذات الاهتمام المشترك والشأن الوطني والعالمي، والرأي يجري بالطرائف، ولم يخلُ الأمر من البكاء على الأطلال، اجتمعوا على قلب رجل واحد، واتفقوا على أمر، والاجتماع على قلب رجل واحد نادر جدًا عند السوريين، خاصة إذا علمنا أن بينهم ملحدًا (ولا أدري، وأحيانًا ثلاثة أجوبة)، ولم يحدث من قبل، وهو ملحد يقسم بالله كثيرًا، وأقرّوا أنهم فقدوا سلطانهم في بلدان النزوح الأوروبية. إنهم لا يصلحون سوى فزاعات عصافير.

 مات الأب السوري في أوروبا أيها السادة، وعلينا أن نقيم جنازة كبيرة لذكراه

ورفضوا استخدام تعبير "رجل كرسي" في وصف أحوالهم المأساوية في بلاد النزوح، وليس أهم من الكرسي في بلاد المنشأ، وبلاد المنزح أيضًا، فرِجل الكرسي مهمة جدًا في توازنه، والأب السوري أقل من رجل كرسي، فالعيال كبرت بسرعة بغير آوانها في البلاد الأوروبية، كأنما يتعاطون هرمونات، والآباء صغروا كثيرًا حتى صاروا أطفالًا خدّجًا، كأنما أخذوا عقاقير التصغير.

 أقرّوا أنَّ الأبناء استغنوا عن الآباء، ولم يعد أحد منهم يسمع نداء: بابا.

 مات الأب السوري في أوروبا أيها السادة، وعلينا أن نقيم جنازة كبيرة لذكراه.

 بل إنهم أضحوا عالة على أبنائهم، فهم يعيشون على المعونة الحكومية للأبناء.

 صمتوا، ونكسوا رؤوسهم، وتعالى الدخان وانعقد فوق الرؤوس كأنه غبار حرب، وصلّوا على النبي، حتى الملحد الكافر  صلى على النبي.

 نظرية قتل الأب نظرية أوروبية قديمة، وعليها بنى علماء النفس، وأولهم فرويد دينًا، دانت به أوروبا، اسمه دين قتل الأب، وكان من حصيلة المعركة مع الأب أن زعم الفيلسوف الألماني نتشه؛ أن الإله مات في الغرب، وأصدر نعوته، وكان الابن قد صُلب قبل ألفي سنة أو يزيد، كما تعلمون في الديانة الغربية.

جرى قتل الإله، فانتقلت الحضارة الغربية بالوراثة إلى كبير العائلة!

النظرية السالفة تفسر كثيرًا من أحوال النفس الأوروبية، إلى جانب نظريات أخرى، مثل عقدة الكترا، وعقدة نرسيس، فالغرب قائم على العقد وفكّها، وتطوّر كل هذا التطور في العمران والخراب، فالعقد النفسية لا تحول دون التقدم العلمي، بل إنها السبب في كثير منه.

ليس لقتل قابيل هابيل اسم في العقد، لكن يبدو أن هابيل كان من الشرق.

ولم يكن الأوربيون يستطيعون قتل الأب في بلادنا، فاستدرجوه، وقتلوه قتلًا رمزيًا، وسرقوا أولاده، ومن الأسف أنَّ الرئيس الأبَّ، أو الأبّ القائد، لا يزال أبًا في معظم البلاد العربية. قتلوا الأب في المنازح، لكنهم أبقوا على "الأب الكبير" مصانًا في الوطن، بل إنّه ازداد أبوّة في سوريا، ومصر، وغيرهما من البلاد العربية، حتى إنَّ الأب المصري صار أبًا لمئة مليون مصري، كلما ظُلم واحد منهم، نادى أباه مستنجدًا: انت فين يا سيسي.. وكذلك الأمر في سوريا: وينك يا سيادة الرئيس.

الآباء أدركوا أنَّ سلطانهم رهين بوجود الحشرات، فكلما حنَّ الأب إلى هذا النداء اضطر إلى صناعة فلم رعب، فيحضر صرصورًا

لكن ثلاثة من الآباء المجتمعين، وكانوا على قلب رجل واحد قبل قليل، وبينهم ملحد، انشقّوا عن السبعة، من غير أن يؤسسوا حزبًا، عقدوا لفافات تبغ، وأطلقوا كثيرًا من الدخان، وشربوا قهوة مرّة، وأقرّوا بأنهم ما زالوا يسمعون هذا النداء الندي في حالة واحدة، وهو عندما يظهر صرصور، أو عنكبوت في البيت، فيسمعون استغاثات الأبناء والبنات خاصة، فيسارعون إلى قتله، ثم إنَّ الآباء أدركوا أنَّ سلطانهم رهين بوجود الحشرات، فكلما حنَّ الأب إلى هذا النداء اضطر إلى صناعة فلم رعب، فيحضر صرصورًا، ويدسّه في البيت، كي يطرب بسماع نداء بابا.

عاشت الصراصير.

أيها الصرصور: منحبّك.