اغتيال سليماني آخر في إيران

2020.12.04 | 23:02 دمشق

30-11-20-786956339.jpg
+A
حجم الخط
-A

يبدو اغتيال العالم محسن فخري زادة عراب ومسؤول الملف النووي الإيراني مفعماً بالدلالات والتداعيات ولا يقل أهمية بالتأكيد عن اغتيال مسؤول الحرس والرئيس الفعلي للبلاد قاسم سليماني منذ عام تقريباً كون زادة للمشروع النووي كسليماني للمشروع الاستعماري الإيراني في المنطقة. هو سليماني صغير، وإن بصورة علمية ويتموضع حتماً في نفس البقعة السياسية والأمنية، لكن قبل الحديث عن دلالات وتداعيات اغتياله في وضح النهار قرب طهران الجمعة الماضية ثمة محددات أو قواعد يجب أخذها بعين الاعتبار ولا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها.

محسن فخري زادة لم يكن مسؤولاً في وزارة التعليم والبحث العلمي، بل في وزارة الدفاع، حيث كان يتولى منصب نائب الوزير، وبالتالي فهو ركناً من أركان المنظومة العسكرية الإيرانية التي لعبت دوراً كبيراً في الاستبداد الداخلي والمشروع الاستعماري الخارجي، وجزء من أمبراطورية الدم والوهم الفارسية التي يتبجح مسؤولوها باحتلال أربع عواصم عربية.

بعد التوقيع على الاتفاق النووي مع إدارة باراك أوباما – 2015 - استقبل الرئيس حسن روحاني كبار المسؤولين عن المشروع النووي بما فيهم راعي وعرّاب المشروع فخري زادة، حيث شكرهم الرئيس على جهودهم التي ساهمت في تكريس ما أسماه الحضور والنفوذ الإيراني في المنطقة، علماً أن المقايضة مع إدارة باراك أوباما تمثلت بغض الطرف عن الممارسات الإيرانية الاستعمارية وجرائمها في المنطقة بما في ذلك احتلال أربع عواصم عربية، ومشاركة بشار الأسد جرائمه الموصوفة ضد الشعب السوري مقابل التوقيع على الاتفاق وتقليص مشروعها النووي وتحديداً بعده العسكري. ومن هذه الزاوية يمكن الاستنتاج ببساطة أيضاً أن فخري زادة ضالع مباشرة من موقعه التنفيذي في السياسات والجرائم التي أسماها روحاني النفوذ الإيراني في المنطقة.

قال وزير الخارجية البريطاني جاك سترو في حواره الشهير مع التلفزيون العربي – شباط/ فبراير 2020 - إنَّ إيران تعاونت عسكرياً واستخبارياً مع إسرائيل لتدمير العراق. ومن هنا أيضاً يمكن اعتبار فخري زادة ضالعاً في هذا التعاون، خاصة أن إيران تواطأت مباشرة بعد ذلك مع أميركا لاحتلال العراق وتحديداً البيئة التي انتمى إليها فخري زادة مباشرة بصفته عضواً غيرَ عادي بدرجة نائب وزير في المنظومة العسكرية الإيرانية.

فخري زادة لا يستحق أي تعاطف أو رثاء، ورغم خلفيته وقدراته العلمية إلا أنه كان عنصراً مهماً ومركزياً في المنظومة الإيرانية الأمنية المستبدة الحاكمة

بعد الاحتلال الأميركي للعراق قامت إيران مباشرة أو عبر عملائها وأدواتها باغتيال مئات بل آلاف من العلماء والضباط والمسؤولين العراقيين سابقين فخري زادة بصفته عضواً رفيعاً في المؤسسة العسكرية ضالعاً ومتورطاً أيضاً في هذا المخطط بما في ذلك اغتيال من يفترض أنهم زملاؤه من العلماء.

بناء على المحددات السابقة يمكن الاستنتاج أن فخري زادة لا يستحق أي تعاطف أو رثاء، ورغم خلفيته وقدراته العلمية إلا أنه كان عنصراً مهماً ومركزياً في المنظومة الإيرانية الأمنية المستبدة الحاكمة، والقول إنه عبد القادر خان المشروع  النووي الإيراني فيه كثير من المبالغة كون خان لم يكن أبداً عضواً في المنظومة السلطوية الباكستانية التي لم تقم بأدوار استعمارية في الخارج، كما أنه لم يبخل بخبراته وقدراته على أي من الدول العربية والإسلامية بما فيها إيران نفسها. أما محسن فخري زادة فهو ببساطة قاسم سليماني صغير، وكان ضالعاً في مشروعه السلطوي الاستبدادي بالداخل والاستعماري الدموي بالخارج.

أما فيما يتعلق بدلالات عملية الاغتيال التي نفذت في وضح النهار قرب العاصمة طهران فنحن أمام اختراق كبير للمنظومة الأمنية والدولة الإيرانية التي اتضح أنها نمر من ورق وانتصاراتها المزعومة في الخارج تمت أساساً بفضل تغطية ودعم الغزاة، والجرائم التي ارتكبتها أدواتها وأذرعها الطائفية الموتورة من الحشود الشعبية على اختلاف مسمياتها وخلفياتها.

الاختراق الأمني كبير جداً وعميق ومتشعب ولا يتعلق  فقط بجمع المعلومات وإنما بالتحضير والتنفيذ الدقيق لعملية الاغتيال ثم الانسحاب وكأنّ شيئا لم يكن. ومن هذه الزاوية تبدو العملية شبيهة تماماً باستيلاء جهاز المخابرات الخارجية الإسرائيلية الموساد على أطنان من الأرشيف النووي الإيراني – أيار/ مايو 2018 - ونقلها إلى إسرائيل في عملية أكدت أيضاً اهتراء المنظومة الأمنية ومؤسسات الدولة الإيرانية بشكل عام.

الاختراق الكبير تبدى كذلك في تخبط وتناقض الروايات الإيرانية التي سعت لتجميل الواقع البشع عبر تقديم روايات خيالية مثل قصة استخدام رشاشات آلية يمكن تشغيلها عن بعد وحتى عبر الأقمار الصناعية. هذه الرواية تحديداً رددتها أبواق الحرس الإعلامية بعد أيام من الاغتيال لإخفاء الإهانة التي تعرض لها باعتباره حامي الحمى والممسك عملياً بالملف الأمني وحتى السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلد.

إسرائيل مسؤولة عن الاغتيال ولا شك حيث نقلت صحيفة نيويورك تايمز تصريحات لمسؤولين أميركيين وإسرائيليين تفيد بوقوف الموساد خلف العملية، كما حصل مع تفجير مفاعل نتاتز النووي الصيف الماضي، وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قد ألمح شخصياً إلى ذلك بقوله الأحد الماضي أنه لا يستطيع الإفصاح عن كل إنجازاته هذا الأسبوع.

أما دوافع إسرائيل من تنفيذ عملية الاغتيال فواضحة أيضاً وتتمثل بضرب المشروع النووي الإيراني أو على الأقل تأخيره وإضعافه من خلال اغتيال عرّابه وراعيه ومديره التنفيذي المباشر في ظل القناعة أن أنظمة الاستبداد تدار عادةً بشكل مركزي ومن الصعوبة بمكان تعويض القادة الراحلين تماماً، كما حدث بعد اغتيال قاسم سليماني.

هدفت عملية الاغتيال المدوية إلى إحراج إيران وإجبارها على الرد إمّا عبر التحلل تماماً من التزاماتها وفق الاتفاق النووي

لا يقل عن ذلك أهمية طبعاً سعي إسرائيل لمراكمة الصعوبات أمام الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن بعدما أكد نيته في رفع العقوبات عن إيران والعودة إلى الاتفاق النووي معها، ومن ثم التفاوض على تحسينه وسدّ ثغراته.

وفيما يخص التداعيات فقد هدفت عملية الاغتيال المدوية إلى إحراج إيران وإجبارها على الرد إمّا عبر التحلل تماماً من التزاماتها وفق الاتفاق النووي، وبالتالي صعوبة العودة إليه من قبل جو بايدن أو المغامرة بالرد عسكرياً ضد أميركا أو إسرائيل وتلقى ضربة عسكرية قاصمة ضد منشآتها النووية والعلمية وجعل العودة إلى المفاوضات والاتفاق النووي شبه مستحيلة.

أما عدم الرد وانتظار رحيل إدارة دونالد ترامب ورفع الإدارة الجديدة للعقوبات والعودة للاتفاق والمفاوضات فسيؤدي إلى تآكل بل انهيار هيبة النظام الإيراني في الداخل والخارج خاصة بعد عدم رده جدياً حتى الآن على اغتيال قاسم سليماني الذي كان بمثابة الرئيس الفعلي للبلاد.

يجري الحديث كذلك عن ردّ إيراني ما ضد إسرائيل عبر الأذرع الطائفية والحشود الطائفية الشعبية في سوريا ولبنان واليمن، وهذا أيضاً مستبعد لتحاشي الردّ الإسرائيلي الساحق ضد تلك الحشود بما فيها نظام بشار الأسد نفسه، خاصة مع عدم اتخاذ تل أبيب أي احتياطات أمنية إضافية لا على الحدود مع سوريا ولا حتى مع لبنان.

في الأخير يبدو الرد الإيراني مطروحاً نظرياً فقط ولكنه مستبعد عملياً على مختلف الجبهات باستثناء عملية صغيرة ومحدودة ضد إحدى السفارات الإسرائيلية هنا أو هناك، ولا بد من التأكيد كما العادة على حقيقة أن لا أفضلية أخلاقية للاحتلال الإيراني ورموزه وقياداته بما فيهم محسن فخري زادة وقاسم سليماني على الاحتلال الإسرائيلي برموزه وقياداته مع فرق مهم يتمثل بكون إيران دولة طبيعية في المنطقة تنتهي المشكلات معها بمجرد انسحابها وإنهاء مشروعها الاستعماري في المنطقة العربية، أما إسرائيل فدولة استعمارية طارئة محتلة لفلسطين ولا سلام ولا استقرار إقليمياً دون تفكيكها وزوالها نهائياً.