اصطناع المظلوميّة الكرديّة

2019.04.24 | 00:04 دمشق

+A
حجم الخط
-A

المظلومية/ المأساة التاريخية  

يفترض مصطلح "المظلومية" الذي بات يتكرر في كتابات معظم القوميين الأكراد مؤخراً، حالة من الظلم والاضطهاد التاريخي بحق الأكراد، فمن خلال هذا المصطلح يتم تعويم صور متراكبة عن مآسي تاريخية مفترضة، لحقت بالأكراد على أيدي "الأغراب" من باقي القوميات التي تحتل الأكراد وتتلذذ بعذاباتهم ومعاناتهم، فقط لأنهم خُلقوا "أكراداً"، أي أن هذا الاضطهاد مورسَ وما يزال يُمارس على أسس قومية عنصرية بحتة.

والمظلومية ليست نتاج تطور الواقع السياسي في القرن العشرين الذي ساهم في نشوء الدول القومية الحديثة، وحرم الأكراد من دولتهم، بل المسألة أعمق من ذلك بكثير، فمظلومية الأكراد سلسلة ضمن تراجيدية تاريخية كردية تعبر عنها مقولة أطلقها الملا مصطفى البرزاني ويرددها القوميون الأكراد: "ليس للأكراد أصدقاء سوى الجبال". وتبدأ المظلومية الكردية في سياقها التاريخي منذ قصة أسطورية، بطلها الملك الضحاك (شخصية أسطورية فارسية في كتاب الشاهنامه) فالداء الذي أصاب الضحاك، تلخّص بظهور حيتين على كتفيه، كانتا تتغذيان كل يوم على أدمغة شابين من شعبه، كان يتم مساعدة أحد الشابين للنجاة وللهرب نحو الجبال، ومن هؤلاء الناجين تشكّل الأكراد، فالأكراد وفقاً لهذا السياق أبناء شرعيون للمظلومية والمعاناة الأسطورية.

ازدادت وتيرة الحديث عن الظلم الذي لحق بالأكراد في العقود الأخيرة، حتى بات الشعور بالاضطهاد والظلم والمعاناة هو مكون رئيسي في الشخصيّة الكردية، وبات هذا النواح ينتقل من الآباء إلى الأبناء في سردية خلقت مع الزمن "عقدة الاضطهاد" عند الأكراد. فهم كانوا وما يزالون -وفق هذه السردية- ضحية التآمر من قبل الشعوب الأخرى التي استغلتهم تارة باسم الدين وتارة باسم الوطن، وحرمتهم من كل شيء. والإسلام المتهم الأول

سيعمل بعض القوميين والمثقفين الكرد على توظيف أية حادثة تاريخية أو مواجهة بين السلطات وإحدى العشائر الكردية، في إطار "المظلومية التاريخية" المفترضة

في القضاء على خصوصيتهم القومية واللغوية والدينية، لذلك وكردة فعل تظهر اليوم محاولة التغني بماضي ديني متخيل عنوانه "الزردشتية" بوصفها دين الآباء الأوائل، ودعوات إلى المجاهرة بالهجوم على الإسلام، بوصفه أحد أدوات الظلم والاضطهاد الذي تعرض له الأكراد تاريخياً. كذلك سيتم تناول واقع العشائر الكردية العثمانية في سياق متصل بالمظلومية التاريخية، إذ سيعمل بعض القوميين والمثقفين الكرد على توظيف أية حادثة تاريخية أو مواجهة بين السلطات وإحدى العشائر الكردية، في إطار "المظلومية التاريخية" المفترضة. فعلى المثقفين أن يوفروا لجماعتهم ما يصفه سميث (Smith Anthony) بالمأساة التاريخية وعلى هذه المأساة تحديد الهوية أو الوحدة الموجودة في النص، وتحويلها باتجاه هدف متخيّل. يجب أن تقدم، من جهة، تاريخاً وفكراً ما ورائياً عن المجتمع، يضعه في الزمن والفضاء مع المجتمعات الأخرى في العالم.

يعبر بعض المثقفين الكرد أيضاً عن مظلوميتهم بوصفها نتاج ثقة الأكراد المطلقة بالآخرين، يبدي بعضهم مثلاً حسرة على هذه الثقة "التاريخية"، مستشهدين وبلغة تحمل العتب على القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي "الكردي"، الذي أخطأ حينما لم يصنع دولة للأكراد، مبررين ذلك بأنه كان ينظر وفق مصلحة المسلمين ولم يشأ أن يشق الصف، علماً أن العالم لم يعرف آنذاك شيئاً اسمه دولة قومية.

أكراد سوريا "المظلوميّة المتخيّلة"

انحصرت المظلومية الكردية في النصف الأول من القرن العشرين، في إطار العلاقة التركية – الكردية وفق المفاهيم التي أسست لها اتفاقية سيفر سنة 1920، فتركيا الكمالية كانت تهيمن على أرض "كردستان" التي حددتها المواد 62، 63، 64 من اتفاقية سيفر، وبالتالي كان المشروع القومي للحركة الكردية الأولى يتلخص بتحرير كردستان من نير "الاحتلال التركي"، ولم تكن حتى ذلك التاريخ للأكراد مظلوميات سياسية أو قومية في العراق أو سوريا من باب أولى.

ففي عددها الخاص 311 المنشور في 2 تشرين الأول 1956 نشرت جريدة الوجدان، مادة أدبية بعنوان كردي يناجي بلاده، تعكس إحدى صور المظلومية الكردية، المتمثلة بمناجاة الوطن المغتصب من قبل الأتراك، حيث يقدم  فندي محمد نعسان من أبناء بلدة عين العرب، في مناجاته وعوداً بالعودة إلى الوطن قريباً، واصفاً الشوق والحزن المتبادل بين الوطن وأبنائه ومقاساة كلاهما ألم الفراق، فيقول : "أتبكين يا حبيبتي على فراقي، وهناك أعداء الحرية يتمتعون بخيرات أرضنا؟  أتقاسين يا حبيبتي ألم البعاد، وهناك صرخات المعذبين وقرقعة السلاسل والأغلال يجرها الأحرار في دهاليز السجون السوداء؟  لا يا حبيبتي! دعي الماضي جانباً وهيا بنا للكفاح لنتحرر.  أجل لنتحرر من ظلم أعداء الحرية والإنسانية الذين يعرفهم الشعب وهو ينتظر.  إلى متى نظل نطأطئ رؤوسنا تحت نير المستعمر، وقد ولى عهد الاستعمار وجاء عهد الحرية – عهد العدالة!  كفكفي دموعك يا حبيبتي، فغداً ستزهر الأيام مدى الحياة، وغداً سنكشف الضباب وتشرق شمسنا من جديد، ويصبح الحلم حقيقة، وغداً يا حبيبتي سنعود لنتمتع بحنان الأمومة".

بعد عودة الملا مصطفى البرزاني من منفاه سنة 1958م، ازداد مد الحركة القومية الكردية في العراق، وتأثر أكراد سوريا بشكل كبير بتصاعد وهج الفكر القومي لدى أكراد العراق، ونشأت أولى الأحزاب الكردية في سوريا. ومع هذا المد، كانت مسألة المظلوميّة، والاضطهاد أو الحرمان العرقي، هي إحدى وسائل الحشد القومي المستخدمة في مخاطبة الجماهير من جهة، ونموذج تفسيري أيضاً للوضع الكردي السياسي من جهة أخرى، بحيث يصبح التشكيك بنوايا الآخرين، وإلقاء اللوم عليهم، واتهامهم بالظلم والاضطهاد العنصري للأكراد والتآمر عليهم، إحدى الأسلحة النفسية القريبة من الشخصية الكردية، والتي ما تزال تسيطر على العقل الجمعي الكردي حتى اللحظة.  

ستتعزز تلك المشاعر، مع بدء الصدامات المسلحة بين الأكراد والحكومة المركزية للعراق، لتنتقل المخاوف تجاه السلطات السورية، وتزامناً مع وصول البعث للسلطة، بدأ ينظر للأكراد كعنصر مثير للريبة، مع التقارير الأمنية التي تتحدث عن انعكاسات الوضع الكردي في العراق على أكراد سوريا، ومن الأمثلة التي يتناولها الأكراد في هذا الإطار "دراسة محمد طلب الهلال" التي تحدثت عن العلاقة المحتملة بين بعض أكراد سوريا وحركة البرزاني، وخطورتهم "أي الأكراد" على الوطن والتحذير منهم، وقدم الهلال وفقاً لذلك مقترحات بنقلهم من المنطقة الحدودية وتوزيعهم في مناطق أخرى، وغيرها من المقترحات التي وصفت بالعنصرية. هذه المقترحات على الرغم من أنها بقيت على الورق ولم يطبق شيء منها، إلا أنه سيتم التعامل معها بوصفها ممارسات تم تطبيقها فعلياً على الأكراد ومظلوميات لحقت بهم، يضاف إليها مظلومية المحرومين من الجنسية، التي حدثت جراء صدور قانون الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة في عهد حكومة الانفصال، والذي تم بموجبه تقييد آلاف من الأكراد الذين لم تثبت تابعيتهم السورية قبل عام 1945 ضمن سجلات الأجانب، وبالتالي بقوا محرومين من حق الجنسية حتى عام 2011، وكذلك عدم إدراج اللغة الكردية ضمن وسائل التعليم في مناطق الكثافة الكردية، كل ذلك سيساهم في تعزيز فكرة المظلومية والاضطهاد، وسيكون إحدى أدوات الأحزاب القومية الكردية في خطابهم ومطالباتهم القومية الحديثة في سوريا حتى لو كان ذلك على حساب باقي السوريين.

المظلومية بين التشكيك والحقيقة

تعمدت ذكر بعض النماذج التي يستند إليها الأكراد في ادعاء المظلومية أو الاضطهاد القومي، ومن نافل القول بأنني أرفض كل ممارسة من شأنها إلحاق الضرر بأي مجموعة سورية دينية أو إثنية أو لغوية، مع إيماني المطلق بأنَّ سوريا تتسع للجميع، وأن قضية بناء دولة مدنية ديمقراطية مبنية على أسس المواطنة والعدل والمساواة ستشمل كل المسائل الفرعية الأخرى، وستضمن حقوق الجميع، دون الحاجة إلى اللجوء لخطاب قومي عنوانه المحاصصات، أو رسم كيانات ومشاريع أحادية على الخريطة السورية، يتم تبريرها بالمظلوميات "المتخيلة".

هناك فرق شاسع بين مناقشة مظالم حقيقية وأساسية، كان عنوانها الاستبداد والتسلط والحكم الشمولي وقمع المخالفين في الرأي وتقييد الحريات العامة والقتل، وغير ذلك من الممارسات التي تعرض لها الشعب السوري بكافة مكوناته طيلة نصف قرن. وبين اصطناع مظلوميّات وزعم "خصوصيتها"، كالحديث عن "خصوصية المظلوميّة الكرديّة"، أو مثلاً إشاعة عبارة "الأكراد ظلموا مرتين ، مرة لأنهم سوريون ومرة لأنهم أكراد"، والأكراد على أي حال ليسوا استثناء، فهناك أصوات أخرى وإن كانت أخف حدة، تفترض أيضاً خصوصية لمظلوميات تاريخية أخرى، "سريانية، آشورية، أرمنية، تركمانية، درزية، علوية، شيعية ..الخ"، تشترك جميعها بوصفها تنظر إلى نفسها كأقليات لغوية أو طائفية، ولا يعني أن جميعها تنطلق من طموح ودوافع سياسية.

لقد وصل الأمر ببعض الذين ينادون بالاعتراف بخصوصية المظلومية الكردية في سوريا، بأن يشبهوا السوري الذي ينكر تلك المظلومية، "بالألماني الذي يحاول نفي المظلوميّة اليهوديّة أو مظلوميّة الغجر أو المعاقين الذين كانوا يساقون إلى المحارق ومعسكرات الاعتقال النازي في ألمانيا، على أن الألمان كلهم كانوا مظلومين". فالظلم الذي تعرضت له بعض الفئات (الغجر، اليهود) على أيدي

هل تعرض الأكراد في سوريا لمجازر كتلك التي تعرض لها أهالي حماة وسجناء تدمر وأهالي الحولة؟ هل تعرّض الأكراد لغارة كيماوية واحدة بين أكثر من 20 غارة كيماوية استهدف فيها النظام المناطق السورية؟

النازيين لا يقاس بالظلم الذي تعرض له باقي الألمان. والمثال الألماني صحيح، لكن المقاربة مع النموذج السوري هي مغالطة كبيرة، تطرح سؤالاً لا يقدم الأكراد إجابات مقنعة عليه، وهو يتعلق بماهية المظلومية الكردية في سوريا التي جعلت البعض يجنح بخيالاته إلى حد تشبيهها بالممارسات النازية ضدّ الغجر واليهود؟

فهل تعرض الأكراد في سوريا لمجازر كتلك التي تعرض لها أهالي حماة وسجناء تدمر وأهالي الحولة؟ هل تعرّض الأكراد لغارة كيماوية واحدة بين أكثر من 20 غارة كيماوية استهدف فيها النظام المناطق السورية؟ هل تعرضت القرى أو الأحياء الكردية لـ 1% من الدمار الذي تعرضت له مساكن باقي السوريين؟ عندما كان النظام السوري يرعى تشكيل الأحزاب والقوى الكردية منذ السبعينيات والثمانينيات، ويحتضن زعماء الحركة الكردية (الطالباني، أوجلان) ويقيم لهم المعسكرات، ويدعمهم بالسلاح والمال، فهل كان يسمح حينها لأي سوري بالحديث في الشأن السياسي أو تكون أي تنظيم سياسي خارج فلك حزب البعث، أو الأحزاب الكرتونية للجبهة الوطنية التقدمية التي مثلت نسخاً مكررة للتسبيح بحمد القائد الخالد منذ تأسيسها؟  

أخيراً: إذا لم يكن أي شيء من هذا الذي ذكرناه حدث، فأين مصداقية النواح عن مظلومية كردية في سوريا؟ مظلومية يتهم بعض القوميين الكرد اليوم كل من لا يعترف "بخصوصيتها" المزعومة، بالشوفينية والعداء والتآمر الذي تمثل المعارضة السورية فيه وجه آخر للنظام السوري في التوافق على ظلم الأكراد بحسب زعمهم!!!

هناك مطالب مشروعة ومحقة للأكراد وكذلك لجميع الأقليات اللغوية والدينية السورية الأخرى، يجب أن يضمن تلك الحقوق الدستور، وكلها مطالب ومسائل وقضايا يجب التعامل معها كجزء من القضية الوطنية السورية الشاملة، ولا يجب هنا أبداً اشتراط "خصوصية" تميّز الأكراد عن غيرهم في هذه المسائل تحت أي مبرر كان، كما أنه لا يجب توظيف أي ظلم لحق بأي مكون سوري لطرح مشاريع تهدف للمحاصصة، أو بناء كيانات وخرائط تفضي إلى المساس بوحدة سوريا أو الصدام بين مكونات الشعب السوري.