استبطان العنصرية في خطاب الساسة "الغربيين"

2019.06.30 | 00:06 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تذكرني أحاديث معظم الساسة الغربيين بتلك السيدة السويدية، التي التقيتها في أحد لقاءات التعارف مع اللاجئين الجدد القادمين إلى السويد، تلك السيدة التي سألتني عما حدث في سوريا، فأجبتها باختصار: إن الشعب السوري لم يعد يريد حاكمه الذي يتربع على السلطة منذ أربعين عاماً، وعندما تظاهر في الشوارع مطالباً إياه بالتنحي؛ أرسل جنوده ودباباته إلى الشوارع، وراح يقتل المتظاهرين.

يومها، استغربت السيدة السويدية حديثي، وسألتني بمنتهى الجدية والعفوية:

- أما كان من الأفضل أن تتم تنحيته بالبرلمان؟

الفرق بين تلك السيدة والديبلوماسيين الغربيين، هو: أنها حقيقة لا تعرف النظام السوري، وربما لا تعرف إلا أقل القليل عن سوريا، لكنهم "الديبلوماسيين" يعرفون كل شيء، ليس هذا وحسب، بل هم شركاء في صناعة وحماية مهزلة هذه الأنظمة العربية التي تتحكم بالشعوب العربية. غير أن وجه التشابه بينهما هو هذه اللغة المحايدة والمتجاهلة التي تدفعك إلى الصمت، فما من شيء تقوله حيال هذا الغياب للحقيقة أو حيال تجاهلها المتعمد.

في لقاء صحفي أجراه مؤخراً الصحفي السوري "سومر العبد الله" مع الديبلوماسي الهولندي المعروف (نيكولاس فان دام) *، ونشر في موقع "هولندا اليوم" بتاريخ 24/6/2019، استوقفني -منذ البداية- العنوان الذي تم اختياره لهذا اللقاء:

"الحوار الفاشل مع النظام السوري كان أفضل من الحرب الفاشلة".

عندما حاولت الكتابة عن هذا اللقاء، وما قاله "فان دام" كنت أعود -في كل مرة حاولت التركيز فيها على تفاصيل فيه- إلى عنوانه الصادم؛ لأستنتج أنه يكثف فعلاً، ليس هذا الحوار فقط، بل إنه يكثف أكثر من ذلك بكثير: إنه يكثف جوهر الديبلوماسية الغربية.

سأعترف: أن قدراتي العقلية المحدودة، لم تساعدني كثيراً على فهم علمي لهذه المعادلة الصعبة؛ فالحوار الفاشل هو المقدمة الطبيعية للحرب، هذا إذا افترضنا مسبقاً، أن هناك إمكانية للحوار أساساً مع النظام السوري، بغض النظر عن توصيف هذا الحوار، أكان فاشلاً أم غير فاشل.

لم يكن السوريون عُمياً، كانوا يدركون أن هذا النظام يقود بلادهم إلى الخراب، ومع هذا لم يختاروا الحرب، لا بل صمتوا عن مجازر ارتكبت بحقهم

لكن "فان دام" خير من يعلم، أن السوريين خاضوا حواراً فاشلاً طوال أربعين عاماً مع هذا النظام، لم يكن السوريون عُمياً، كانوا يدركون أن هذا النظام يقود بلادهم إلى الخراب، ومع هذا لم يختاروا الحرب، لا بل صمتوا عن مجازر ارتكبت بحقهم، تلك التي يعرفها "فان دام" جيداً، وقد كتب عنها، ولأنهم يعرفون جيداً مدى وحشية هذا النظام وهمجيته؛ فقد انتظروا القدر لينهي مشكلتهم أولاً، وعندما تدخل القدر، وأزاح الطاغية الأكبر من حياتهم، سارعوا إلى مناشدة وريثه: أن ينتبه للبلاد التي تئن تحت وطأة ثلاثة عقود من الظلم والعسف والفساد، ولقد مدوا أيديهم لمساعدته، وكانوا صادقين في طي صفحة الماضي، وفي العمل من أجل سوريا القادمة، لكنهم وجدوا أنفسهم مرة أخرى أمام الحقيقة المرة التي يمكن تكثيفها، بأن هذا النظام لا يرى في السوريين شعباً، ولا مواطنين لهم حقوق وآراء؛ لأنه يراهم عبيداً، وعبيداً فقط.

هذه هي الحقيقة، التي ليست هي مبالغة شعرية، ولا هي مبالغة في التعبير عن المظلومية، إنها حقيقة سيرة هذا النظام طوال أربعين عاماً. اسألوا مئات آلاف السوريين الذين يجبرهم القانون على الخدمة الإلزامية في الجيش، اسألوهم كيف وجدوا أنفسهم خدماً في بيوت ومزارع ومنشآت الضباط الخاصة، واسألوا السوريين عن حصة العائلة الحاكمة في مشاريعهم، حتى لو كان المشروع مجرد "كشك" لبيع السجائر، واسألوا السجون السورية، فهي التي تخبركم: أن ما من بيت في سوريا، لم يذق أحد منه طعم قهرها، واسألوا أخيرا الوثائق التي لديكم عن عشرات الآلاف من السوريين الذين قتلوا تعذيبا.

ليس ذنب السوريين أنهم وجدوا أنفسهم مضطرين للصراخ في وجه هذه السلطة الغاشمة بعد عقود من الصبر والألم والانتظار، وليس ذنبهم في أن تشتغل غرف العالم السوداء كلها؛ لكي يخمدوا صوتهم، وليرفعوا صوتاً آخر فوقه، وليس ذنبهم أنهم ولدوا في الجغرافيا السورية، أو في تاريخ اللعنة.

باختصار:
لم يكن أمام السوريين خيار آخر، فما بين موتين اختاروا، أن يبادروا موتهم بما يستطيعون بدلاً من الموت انتظاراً، لقد تعلموا من سجون العار السورية؛ إذ حين كانوا يساقون في عتمة الفجر الباردة إلى منصات الشنق وحيدين في صحراء بلا نهاية، بادروا إلى أن يصرخوا رغم أن ما من أحد يسمعهم، لقد كانوا يفضلون الموت صارخين على الموت صامتين.

لم يخطئ السوريون في اختيارهم، ولم يخطئوا حين قرروا، أن ليس في الإمكان الانتظار أكثر، ولم يخطئوا حين ذهبوا إلى ما يريدون بكل قلوبهم مقتدين بمقولة المسيح السوري: "إذا ذهبت فاذهب بقلبك كله".

الخطأ الوحيد الذي ارتكبه السوريون، هو أنهم توهموا لحظة: أن في هذا العالم بقية من ضمير؛ لن تسمح بأن يباد شعب بكامله. وهو أنهم توهموا: أن كمية الدم المراق لن تحتملها قيم البشرية المعاصرة.

نعم لقد كان السوريون حمقى؛ لأنهم صدقوا كذبة: الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية والمساواة

نعم، لقد كان السوريون حمقى؛ لأنهم صدقوا كذبة: الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، وقيم العدالة والحرية والمساواة. والأهم هو أنهم صدقوا: أن من المستحيل أن تقبل البشرية في ألفيتها الثالثة، أن يعامل شعب كما يعامل العبيد.

يجب أن نعترف كسوريين: أن النظام السوري تفوق على الشعب السوري في فهم سياسات "الغرب"، لقد فهمها النظام السوري أكثر بكثير من فهم الشعب السوري لها؛ فهو يعرفها جيداً، وهو يعرف أنها لا ترى شعوباً في هذه المنطقة؛ لأنها لا ترى سوى العبيد؛ وعليه فإن ليس من حقنا، نحن العبيد، أن نذهب إلى حوار المواطنة والعدالة والمساواة. بل أن نبقى حيث نحن دائماً: في خرس العبد مع مالكه.

من يدري!! ... قد يكون: ثمة قول آخر للتاريخ.


•    نيكولاس فان دام: دبلوماسي ومؤرخ وباحث هولندي، من مواليد 1945، عمل سفيرا لبلاده في عدة بلدان عربية، وكتب عن العالم العربي عموما لكنه ركز على سوريا بشكل خاص عبر كتبه ومقالاته.
من مؤلفاته عن سوريا:
1-    الصراع على السلطة في سوريّة.
2-    تدمير أمّة – الحرب الأهليّة في سوريّة.