احتواء الخصم.. وهم أم حقيقة؟

2020.12.03 | 23:29 دمشق

photo_2020-12-03_19-35-52.jpg
+A
حجم الخط
-A

ربما بدا الحديث اليومي عن اللجنة الدستورية مُنفّراً للعديد من السوريين، ولكن على الرغم من ذلك تبدو الحاجة إليه ضرورية، وهو بهذه الحال، كالحديث عن جائحة كورونا، حين يكون مسيطراً أو مستحوذاً على اهتمام معظم الناس، لا لشيء، سوى لخطورته التي تنذر الجميع، وبهذا يغدو استقطاب لقاءات اللجنة الدستورية في جنيف للرأي العام السوري على الأقل، موازياً لمخاوف لا تخفى لدى الأغلبية من مناهضي نظام الأسد، ولعل ما يعزز تلك المخاوف هو وجود شخصيات سورية معارضة تحتل مواقع قيادية في وفد اللجنة الدستورية، ما يزال وجودها وسلوكها يجسّد مصدر خوف وريبة، لا لشيء، سوى لأنها اعتادت أن تتحدث عما يجري، لا كما هو بالفعل، ولكن كما يحلو لها. وبالعودة إلى الوقائع، فقد بدأت لقاءات الجلسة الرابعة في الثلاثين من شهر تشرين الثاني الفائت، والتي ستستمر حتى الرابع من شهر كانون أول الجاري، وكان من المفترض أن تتابع الوفود المشاركة الحوار حول ما سمّي بـ ( المبادئ أو الركائز الوطنية) وذلك نزولاً عند رغبة الوفد الذي يمثل نظام الأسد، إلّا أن وقائع الجلسة الأولى التي ترأسها أحمد الكزبري، شهدتْ انزياحاً بالحديث من جانب وفد النظام، إذ لم تعد ( المبادئ الوطنية ) موضع نقاش وحوار، بل أصبح موضوع (عودة اللاجئين) محوراً للحديث، وذلك في خطوة واضحة تهدف إلى أن تكون لقاءات اللجنة الدستورية امتداداً للمؤتمر الذي اقترحه بوتين، وأقيم بدمشق يوم ( 11 – 12 من شهر تشرين ثاني الماضي) بخصوص عودة اللاجئين السوريين. فيما بدا وفد المعارضة مهتماً بقضايا تخص الهوية الوطنية وسيادة القانون والعدالة الانتقالية إلخ، وهكذا بدا كل طرف يغرّد على ليلاه كما يقال.

المعارضات باتت تهدم جدرانها القديمة، لا كي تتحد أو تتلاقى، أو تعتذر عن فشلها وتتنحّى، بل لتعيد انتشارها وتموضعها وفقاً للمعطيات الجديدة.

قد لا تبدو أيّ غرابة في سلوك وفد النظام، بل لعلنا لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن نظام الأسد لا يعنيه من لقاءات اللجنة الدستورية سوى المماطلة واستثمار الوقت، والإصرار على الإحجام عن أي خطوة جدية ليس في عملية كتابة الدستور فحسب، بل في العملية السياسية برمتها، إلّا أن مكمن الغرابة في ردود فعل وفد المعارضة، ممثّلاً برئيسه، حين يؤكد في إحاطته الصحفية مساء الأول من الشهر الجاري، على الجدية التي سادت جلسات اليوم الأول، مُستبعداً أي محاولة لتعطيل الحوار، ومشيراً في الوقت ذاته إلى أن قضية اللاجئين السوريين سوف تكون إحدى مسائل الدستور، فيما بدا مسؤول معارض آخر-  وهو عضو مشارك في اللجنة الدستورية – مبتهجاً على إحدى الشاشات التلفزيونية بنتائج اليوم الأول، معلّلاً غبطته بعدم صدور (مشاغبات من وفد النظام)، ياله من مُنجَزٍ عظيم! . وفي سياق التساؤلات التي بدت تعلو نبرتها لدى جمهور الثورة عن إصرار وفد المعارضة على تجميل القبح في سلوك وفد النظام، بل في الاستجابة التي تصل إلى حدّ الرضوخ والامتثال لما يريد فرضه الكزبري وزملاؤه، يتساءل البعض: لماذا تُخفى علينا حقائق ما يجري؟ نحن لا نطالب الوفد المفاوض بالمعجزات، ونعرف جيداً موازين القوى، كما ندرك حجم وقوة الأوراق التي يتسلّح بها كلا الطرفين المتفاوضين، ولا يخامرنا أدنى شك بعدمية موقف الروس ونظام الأسد معاً من هذه المفاوضات، وبالتالي فإن وفد المعارضة التفاوضي سيكون في حلٍّ من أي لومٍ حيال أيّ فشل من تلك اللقاءات، فلماذا، إذاً، الاستمرار في التضليل؟ فيما يذهب قسم آخر إلى القول: ليس الأمر رغبة طارئة بالتزييف أو عدم المكاشفة أو ما إلى ذلك، بقدر ما هي محاولة من جانب وفد المعارضة لاستدراج الخصم، واحتواء جميع مناوراته في التهرّب، ومجاراته في الذهاب إلى حيث يريد، وعدم إتاحة أي ذريعة له للتملّص من الاستحقاقات الموجبة، ومن ثم احتواؤه ومحاصرته من جميع الجهات، أمّا النتائج في الوقت الراهن فهي ليست مهمة، بل الأهم أن يعلم ويرى المجتمع الدولي، والدول الراعية على وجه الخصوص، بأن المعارضة السورية ملتزمة بالعملية التفاوضية أيّاً كان مسارها، وأيّاً كانت النتائج، ثم يضيف أصحاب هذا الرأي: لعل هذه الخطة الجديدة والتي تُدعى (احتواء الخصم) هي الاستراتيجية الجديدة التي تستلهمها جميع المعارضات السورية وليس هيئة التفاوض وحدها، ليقين تلك المعارضات بأن السبيل التقليدي للتفاوض، والقائم على التمسّك بالحقوق والثوابت الوطنية ورفض الضغوطات الخارجية وتقديم المصلحة العامة على أية مصالح أخرى...إلخ، باتت من السُبل العقيمة التي لم تُفضِ سوى إلى البُوار، ولعلّ القناعة بجدوى هذا الفتح الاستراتيجي الجديد هو ما دفع قطّاعاً من المعارضة (من أصحاب المنصات) للحديث عن مشروع جديد تحت مظلة (سعودية مصرية إماراتية) يهدف إلى إيجاد جسم سياسي جديد، يمكن من خلاله إجراء عملية تفاوضية مع نظام الأسد، بل ربما تخيّل القائمون على هذا المشروع ومريدوهم أن هذه العملية لن تؤدي إلى حل للقضية السورية فحسب، بل ربما أدّت أيضاً إلى عودة الأسد إلى الجامعة العربية، وبهذا تكون استراتيجية (احتواء الخصم) قد حققت هدفاً وطنياً وقومياً بآن معاً. ولعل المنحى الذي يسلكه الائتلاف غير بعيد عن أفق هذا التفكير الاستراتيجي الجديد، فقرار رئيس الائتلاف بإحداث مفوضية للانتخابات، وإصراره بالدفاع عن هذا القرار، رغم ردود الفعل الشعبية والحزبية الساخطة عليه، يفسّره البعض بأنه تمهيد لمنحى جديد قد يكون مباغتا للسوريين.

فيما تتزاحم التحليلات في تفسير الخطابات الجديدة للمعارضات، تبدو عدّة مؤشرات مادية لا يمكن للمرء إغفالها، فحضور وجهين بارزين من المعارضة، وهما عضوان في هيئة التفاوض في الوقت ذاته، مؤتمر (أبناء الجزيرة والفرات) الذي أقامته قسد في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، يحمل رسالة واضحة إلى هيئة التفاوض، موحياً بتعميق الخنادق بين منصاتها، كما أن افتتاحيات مواقع بعض الأحزاب المنحازة إلى قسد تاريخياً، والتي بدت وكأن الفرصة باتت مواتية لها لتطلق آخر ما ادخرته في جعبتها على خصمها الإيديولوجي (تركيا والفصائل المتحالفة معها والائتلاف)، كلها مؤشرات تشي بأن المعارضات باتت تهدم جدرانها القديمة، لا كي تتحد أو تتلاقى، أو تعتذر عن فشلها وتتنحّى، بل لتعيد انتشارها وتموضعها وفقاً للمعطيات الجديدة. وعلى الرغم من نصاعة الصورة الحقيقية لجميع أشكال سلوك المعارضات السورية، إلّا أن ثمة سمة مشتركة، ما يزال الجميع يرى أنها ضرورة مرحلية مهمة لا ينبغي إغفالها، وأعني حرصَ الجميع على تصدير خطاباته وبياناته، بل ربما تزيين حديثه اليومي، بالتمسّك بالقرارات الدولية (جنيف 1 – 2118 – 2254)، في حين أن الفحوى الحقيقي لتلك القرارات يكاد يغيب عن سلوك الجميع.