احتفال حلب: أنانية النجاة ووهم الخلاص..!

2020.02.18 | 23:08 دمشق

000_jd839-1-e1482493871546-635x357.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكن لمن يريد أن يجد تفسيرات كثيرة لعمليات القصف التي كانت تستهدف المدنيين في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام في حلب، كما يمكن للبعض أن يقتنع بمبررات يعفي بها نفسه من تأنيب الضمير كثائر، وأيضاً يستطيع البعض الآخر أن يستمر في إنكار مسؤولية الفصائل عن القذائف التي كانت تسقط بين الحين والآخر على تلك الأحياء وتتسبب بسقوط ضحايا أبرياء، لكن كل ذلك لن يغير من الحقيقة شيئاً.

لقد دفعت الثورة ثمناً باهظاً نتيجة هذا الخطأ الجسيم الذي لم يكن مقتصراً على حلب فقط، وخسرت الكثير من رصيدها الشعبي بين سكان مدينتي دمشق وحلب، وكذلك من مؤيديها الذين يعيشون تحت سيطرة النظام وعجز الناشطون وكثير من قادة المعارضة عن معالجة هذا الخلل الجسيم.

لكن كل ما سبق لا يمكن أن يجعل الاحتفال بانتصار النظام، كما حصل في دمشق سابقاً، وفي حلب حالياً متفهماً، ليس لأن ذلك يعني هزيمة جديدة للمعارضة تؤلم الثوار والمعارضين، وليس بسبب الشعور بمرارة هذه الهزيمة التي لم تعد سوى مجرد تحصيل حاصل في مدينة حلب التي سقطت منذ أكثر من ثلاثة أعوام، وليس لأن النظام هو من انتصر، وبالتالي فإن ما حدث يعني احتفاء بهذا المنتصر، بل قبل كل شيء

كانت طوابير المحتفلين في حلب تجوب شوارع المدينة ابتهاجاً بـ(الخلاص)، في الوقت الذي كانت فيه طوابير النازحين الفارين من الموت على يد قوات النظام وحلفائه هائمة على مدى ما تبقى من جغرافيا كانت تضيق أمامهم أكثر

لأن هذا الاحتفال، حتى وإن كان تعبيراً عن "الخلاص" من القذائف والخطر، جاء على حساب أرواح ومصير عشرات آلاف المهجرين والمشردين الذين فقدوا الجزء اليسير المتبقي لهم من العيش.

كانت طوابير المحتفلين في حلب تجوب شوارع المدينة ابتهاجاً بـ(الخلاص)، في الوقت الذي كانت فيه طوابير النازحين الفارين من الموت على يد قوات النظام وحلفائه هائمة على مدى ما تبقى من جغرافيا كانت تضيق أمامهم أكثر، وتكتظ أكثر بالأجساد حتى لم يعد هناك متسع لخيمة وليت الخيام متوفرة، فمات بعضهم من الجوع وبعضهم من البرد، ومن نجى لا ينتظر أكثر من لقمة تقيت أطفاله أو قطعة قماش تدفء أجسادهم..!

هل هي مجرد أنانية مفرطة تلك التي تدفع المحتفلين بخلاصهم في حلب للاحتفال بهذا الشكل، حتى ولو كان الثمن عذابات آلاف آخرين وحيواتهم؟!

يبدو السؤال ساذجاً جداً، ومع ذلك عن أي (خلاص) يمكن الحديث عندما يأتي على يد مجرم ما انفك منذ تسع سنوات ينشر الموت والخراب، وعن أي أمان يمكن الحديث مع انتشار قطعان الشبيحة والمجرمين في كل شبر من هذه الأرض دون رادع ؟!

افتراض الأنانية يفترض بالضرورة أن الجواب يقول: المهم خلاصي أنا.. نجاتي أنا.. ولا يهم من هو المخلص..

لكن هل فكر المحتفلون للحظة في المستقبل.. في الغد، هل تساءل هؤلاء كيف يمكن لأحدهم أن يمنع ضابطاً أو قائد ميليشيا أو حتى عنصراً صغيراً من الشبيحة من الاعتداء عليه إذا ما قرر ذلك، ومن الذي يمكن أن يعيد له حقاً قد يسلب منه على يد هؤلاء، أو يدفع عنه تهمة تلفق له وتودي به للمجهول إلى الأبد؟!

لم يعد مطلوباً من هؤلاء الفرحين بتخلصهم من القذيفة أو الهاون التفكير بمن تصب عليه البراميل والصواريخ والنيران يومياً منذ ثمان سنوات على الأقل، وليس مطلوباً منهم التضامن حتى بالصمت مع الهائمين على وجوههم في الصقيع والموت والبرد، بل هو سؤال واحد يبدو مبتذلاً أو بلا معنى، لكنه حقيقي ولا يمكن القفز عليه:

هل فكرتم بمستقبلكم تحت حكم نظام تحول إلى مجرد عصابات سرقة وتعفيش وميليشيات محكومة من قبل المحتلين.. هل فكرتم بأولادكم الذين سيثورون على هذا الواقع حكماً، وبمصيرهم وقتها طالما أن المجرم باق؟

لقد كانت الثورة بالأصل انتفاضة على هذا الواقع المظلم الذي يحتفل البعض للأسف بعودته أكثر قوة، وكان جوهرها هو الخلاص للجميع دون استثناء، سواء كانوا مؤيدين أو معارضين أو بلا موقف.

ليست جريمة الثورة أن تحول بعض المنتسبين لها إلى مجرمين، وليست مسؤولية الثوار أن حول النظام وحلفاؤه المعركة من ميدان السياسية إلى ميادين القتال، ثم عمموا الموت على الجميع، ولا يمكن لأي صاحب مبدأ أن يساوي أصلاً بين الطرفين في الحكم مهما كانت خسارته، وبالتالي فإن القبول بصاحب الجريمة الكبرى والمستمرة كمخلص لا يعدو أن يكون قبولاً بجرائمه وغفراناً لها.

هل كل الحلبية احتفلوا بالأمس؟

هل كل أبناء هذه المدينة شبيحة أو مؤيدون؟

أسئلة لا تبدو جديدة، والسعي لإيجاد أجوبة حقيقية أو مرضية عنها بدى منذ سنوات طلت عملاً عبثياً لا طائل منه، فحلب مثلها مثل كل مدن العالم، فيه الجيدون والسيئون والطيبون والسفلة والأكثرية طبعاً هم البسطاء الذين غاية أمرهم السترة، وبالتالي لا يمكن أن تكون حلب وأهلها محل بحث الآن بقدر ما يجب أن ينصب البحث على إيجاد تفسير للاحتفال بالمجرم بحد ذاته.

كلمات مفتاحية