ابتذال الشر سبيلاً أسدياً للخلاص من المساءلة

2019.10.08 | 19:22 دمشق

13682324-152c-4116-ab0d-64e58439e5ca.jpg
+A
حجم الخط
-A

في كتابها "أيخمان في القدس - تفاهة الشر" والذي قدمته حنة أرندت، عن محاكمة المجرم النازي الشهير أيخمان، في القدس عام 1961 وحكم على إثرها بالإعدام شنقا، قدمت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت مصطلحها "تفاهة الشر" الذي ارتبط باسمها من يومه، والذي يُختصر على نحو بليغ بتعليقها الآتي: "بدا أيخمان في هذه اللحظات الأخيرة، كأنه يُلخص الدرس الذي علّمنا إياه، هذا الشوطُ الطويل من الخبث الإنساني، الدّرس المخيف الذي يتحدى الكلام والفكر: درس تفاهة الشرّ."

"ابتذال الشر" هو الغيّ والاسترسال في ممارسة الشر، التكرار والتكرار والإعادة، عرض صور الموت البشع ألف مرة ومرة، حتى يصبح الشرّ فعلاً معتاداً ونقده أمراً ممجوجاً، كما هو مديح جمال القمر، كما هو انتقاد ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، أو مثلما بات البكاء على قتيل في بلدة سورية، أو نقد الفساد الذي ينخر في بنية نظام الأسد، أو الحديث عن المجزرة الألف، التي تحصل في سوريا اليوم.

ابتذال الشر مرة أخرى، بشكل أكثر ضراوة، ذلك الذي يحصل في سوريا كل ساعة، وعبر لاعبين كبار ووسطاء أقزام، وهذا ما يعقد المشهد، ويخنق المستقبل، حيث سيكون الحقد المتراكم، والنزوع البدائي للانتقام بأفظع أشكاله، الأفق الأسود الذي سنواجهه

إذا كان "أدولف أيخمان"، حسب "أرندت"، هو نموذج للانهيار القيمي، ولابتذال الشرّ داخل المجتمع الألماني، زمن حكم "الرايخ" الثالث، فإنّ نظام الأسدين كنظام متصل، ومتنامٍ في غيه، يشكل النموذج الأرعن للشر المطلق

غداً كسوريين، كما سيكون من المحال القيام بأية مراجعات قانونية، يمكن أن تفضي لمحاكمات عادلة أو منصفة، اللهم إلا في الإطار الأدبي والتعبيري، كل هذا بسبب الدفع المنهجي من قبل النظام السوري وداعميه "روسيا وايران"  لتوسيع رقعة الجريمة، والقتل والانتهاكات، في نمط مهول من ابتذال الشر، بحيث تصبح محاسبة الجناة ضرباً من المحال، وشططاً لا يستطيعه ولا يقوى على تحمل تبعاته مجتمعٌ متآكلٌ منهار، كالمجتمع السوري.

إذا كان "أدولف أيخمان"، حسب "أرندت"، هو نموذج للانهيار القيمي، ولابتذال الشرّ داخل المجتمع الألماني، زمن حكم "الرايخ" الثالث، فإنّ نظام الأسدين كنظام متصل، ومتنامٍ في غيه، يشكل النموذج الأرعن للشر المطلق، القادر على اقتراف أبشع الجرائم، وتخليق أعتى المجرمين وإسباغ صفة البطولة والوطنية عليهم، في سبيل إبقاء الشعب السوري رهن الاستعباد.

اجتهد النظام القمعي طويلاً، في جر المجتمع السوري إلى لعبته القذرة، في جعل الدم أمام الدم، والقتل مقابل القتل، والخطف والنهب المشرع من خلال التعامل بالمثل، وغالبا ما نستجيب لهذا الإغراء، لنقع فريسة الانتقام، حيث إن الضحية حين تنتقم ستستمتع بلعبة الانتقام، وتغدو غولاً تريحه رائحة الدم، والرغبة بمزيد من الانتقام، وهذا ما حصل في معظم الثورات.

ولكن ماذا سنترك لأولادنا غير هذا الإرث التافه، من الحقد والكراهية، واستمراء لعبة الانتقام، سواء للحفاظ على الشرعية، أو لإحقاق الحق وإنصاف الضحايا.

دائما هنالك شيء نفعله من أجل الآخرين، وهذه سمة تميز الاجتماع الإنساني، وهو الاهتمام بمن سيأتي.

ربما استعير من الإعلامي الشهير "أسعد طه" تقنيته الرائعة "أن نحكي الحكاية" وربما علمتني سنوات طويلة من الاعتقال، وما عشته خلال ربع قرن بعده، وأنا أثابر على سرد الحكايات، أن الحكاية فيها برء ذاتي، وشفاء جماعي وتأسيس لرؤية جديدة، بعيدة عن اللحظة المحتقنة، الملفحة بروائح الدم وصوت الرصاص، هذه الرؤية تعاود بناء المشهد بشكل بانورامي، وتنظر إلى الحدث المحكي عبر ميكانيزمات روائية وربما سينمائية، أكثر اتساعاً، وتعيد تنظيم الانفعالات والقرارات الشخصية، وتخمد المواقف الانفعالية، وتنظر للطرف الآخر ليس بصفته عدواً وحسب، إنما كجزءٍ من نسيج الحكاية، ولا سيما أن السرد ومن خلال توقفه عند عشرات التفاصيل الصغيرة، التي تُخرج الحكاية أو الحدث من تشكيله الكلي، ككتلة مصمته واحدة سوداء، إلى أجزاء منفصلة تتشكل فيها الحكاية، من خلال مجموعة كبيرة من الأفعال والدوافع المختلفة، والمتوافرة طوعاً أو كرهاً، فيكون الحكم عليها بالتالي أو الانفعال تجاهها، أقل حدة وأكثر تفهما وأبعد عن التوتر.

وفي دراسةٍ حديثةٍ عن تأثير سرد القصص ورواية الحكايات، نشرت مجلة "ستوري كود" تقريراً عنها، حيث عمد الباحثون من جامعة كوليدج لندن، إلى جمع  قصصٍ من مجتمع أغتا المحلي في بالانان بالفلبين، وطلبوا من بعض الشيوخ المسنين إخبارهم بالقصص التي عادة ما يقصونها على الأطفال، وقام الشيوخ بسرد أربع قصص على مدى ليال عدة، وخلص الباحثون إلى أن القصص التي رووها تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هوية المجتمع والقبول الاجتماعي، وتشكل نهاياتها التي تعكس التوفيق بين المصالح العامة، والاختلافات الفردية فرصة لتعزيز التعاون والتكيف الاجتماعي.

الخلاصة، أن هذا الخليط النتن والسام من القسوة المجانية والعنف غير المسبوق وغياب الرؤية والجهل الحاكم وابتذال العنف هو أيسر الطريق لخراب طامي وتدمير الحجر والبشر والمستقبل الذي يبقى حلمنا الأوحد كسوريين، وحدها ثورات قادمة وحقيقية وعلى مستويات مختلفة، قادرة على إنقاذنا من الاندثار في غبار التاريخ.