إيران وغلطة الشاطر

2018.05.14 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما جرى ليلة الخميس، العاشر من أيار الجاري، أشبه ما يكون بكمين نصبته إسرائيل ببراعة لإيران، فوقع فيه الأخير بسذاجة، ودفع ثمناً كبيراً جداً، قد يشكل بداية العد التنازلي للطموحات الإمبراطورية الإيرانية. إذا صدقنا ما أعلنه وزير الحرب الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بشأن عدد الغارات الجوية والصاروخية، وخارطة الأهداف التي دمرتها، في تلك الليلة الطويلة، فنحن أمام ضربة قاصمة للوجود الإيراني في سوريا، بعد سبع سنوات من العمل الدؤوب والاستثمارات المادية والبشرية الكبيرة التي تنكبتها دولة الولي الفقيه لحماية رجلها في دمشق والسيطرة على مفاصل الحكم وبقايا الدولة.

فقد واظبت إسرائيل على استفزاز إيران، من خلال ضرب مواقعها العسكرية في سوريا، طوال السنوات السابقة، وتوجتها بقصف مطار تيفور الذي يشكل مركز التحكم بالطائرات بدون طيار الإيرانية، عشية الضربة الثلاثية، الأميركية – الفرنسية – البريطانية، لمواقع تابعة للنظام الكيماوي يعتقد أن لها علاقة بتصنيع السلاح الكيماوي، حيث قتل سبعة خبراء عسكريين إيرانيين بينهم ضابطان برتب كبيرة. وقتها أطلقت طهران تهديدات بالرد، أخذتها إسرائيل "على محمل الجد" كما قال مسؤولوها في عدد من تصريحاتهم.

وهكذا تواصل "التسخين" من خلال تصريحات الطرفين، إلى أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران. فكان هذا الإعلان بمثابة الضوء الأخضر لإسرائيل، أو هكذا تعاملت معها حكومة نتانياهو، فقامت بضرب موقع إيراني في منطقة الكسوة قرب العاصمة السورية دمشق.

بلعت طهران الطعم، وأطلقت نحو عشرين صاروخاً من نوع غراد نحو مواقع عسكرية في هضبة الجولان المحتلة، سقط معظمها على الجانب السوري من الحدود، ودمرت الدفاعات الجوية الإسرائيلية العدد القليل الذي تمكن من تجاوزها.

واضح من الرد السريع والشامل أن الإسرائيليين قد حددوا مسبقاً الأهداف وخطة الهجوم، وكانوا بانتظار الذريعة لتنفيذها، بدعوى أن هجومهم هو "دفاع عن النفس"!

ربما ظنت طهران أن عملية رمزية كإطلاق بضعة صواريخ غراد غير مؤذية لن تستثير ردة فعل إسرائيلية، أو أن يكون الرد الإسرائيلي

الواقع أن الخيارات أمام طهران كانت محدودة للغاية. إما أن تواصل إدارة خدها الأيسر كلما تلقت صفعة من إسرائيل على خدها الأيمن، أو تقوم بعمل دعائي يغطي، لبعض الوقت، على تخاذلها المديد أمام إسرائيل. ربما ظنت طهران أن عملية رمزية كإطلاق بضعة صواريخ غراد غير مؤذية لن تستثير ردة فعل إسرائيلية، أو أن يكون الرد الإسرائيلي، إذا حدث، متناسباً مع الهجوم الهزيل المصمم من أجل استهلاك إعلام الممانعة. في حين أن الإسرائيلي كان يستدرجها، وليس بعمليات إعلامية، بل بضربات موجعة، إلى الفخ الذي وقعت فيه كما خطط الإسرائيلي وتوقع.

لقد خالف الإيرانيون تلك القاعدة البسيطة والمهمة في الوقت نفسه، في السياسة كما في لعبة الشطرنج أو الملاكمة: لا تتصرف كما يتوقع لك خصمك أن تتصرف!

الأخطر من ذلك أن الرد الإسرائيلي المدمر جاء متزامناً مع زيارة نتانياهو إلى موسكو، في رسالة واضحة لا لبس فيها: لن تدافع روسيا عن حليفها الإيراني حين تهاجمه إسرائيل في سوريا. كان أحد إمعات إعلاميي الممانعة يكاد يبكي تأثراً، على شاشة بي بي سي العربية، وهو يعبر عن استغرابه وصدمته من الخذلان الروسي لإيران.

وقد فسر بعض المحللين هذا التخلي الروسي على أن بوتين يريد – هو نفسه – قصقصة أجنحة إيران في سوريا، ليستفرد بالسيطرة عليها دون منافس، بخاصة وقد كاد دور الميليشيات الشيعية متعددة الجنسيات أن ينتهي، بعدما سيطر النظام على محيط دمشق والقسم الأكبر من مساحة "سورية المفيدة". لكن الأقرب إلى المنطق هو أن قرار ترامب الأحادي بالانسحاب من الاتفاق النووي هو ما دفع الكرملين إلى إعادة النظر في تحالفه مع طهران. ومثال استسلام زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون يشكل عبرةً وجدت صداها حتى في طهران نفسها.

فبعد "غلطة الشاطر" التي كلفت إيران تدمير جميع قواعدها العسكرية في سوريا، وصلت الرسالة وفهم الإيرانيون مدى الخطر الذي يواجهون، فتبرؤوا من إطلاق صواريخ الغراد، وزعموا أنه لا قواعد عسكرية لهم على الأراضي السورية أصلاً لكي تدمرها إسرائيل. تاركين نظام "الحيوان" في دمشق في مواجهة مصيره وحيدا: (السوريون هم الذين أطلقوا الصواريخ!) قال الإيراني مذعوراً مضبوعاً بحصيلة خسارته الكبيرة. و(أصلاً لا قواعد عسكرية لدينا في سوريا) كأنه يتعهد بذلك بعدم إقامة قواعد جديدة بدلاً من تلك التي تم تدميرها، أي ما يقارب الوعد بالانسحاب من سوريا.

عليك أن تبعد الإيراني عن سوريا، لكي لا تتعرض لأي أذى!

وهنا جاء الدور مجدداً على الإسرائيلي ليخاطب النظام الكيماوي ويلقنه خلاصة الدرس مما حدث: (عليك أن تبعد الإيراني عن سوريا، لكي لا تتعرض لأي أذى!). المهمة أنجزت، إذن، بتضافر ثلاثة عوامل: ضوء أخضر أميركي من خلال قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي، وضوء أخضر روسي أثناء زيارة نتانياهو لموسكو، وقرار إسرائيلي حازم بمنع إيران من الاستيطان العسكري في سوريا.

ترى هل تختصر طهران درب الآلام على نفسها، كما فعلت كوريا الشمالية، فتوافق على إعادة النظر في الاتفاق النووي، مع شروط أكثر تشدداً، مقابل بقاء النظام؟ هذا غير مستبعد، بالنظر إلى النزعة البراغماتية الإيرانية التي جعلت الإمام الخميني يتجرع كأس السم ويوافق على وقف الحرب مع العراق في 1988.

قبل "ليلة الصواريخ" الطويلة، كنت ميالاً إلى توقع مماحكة إيرانية طويلة في مواجهة قرار ترامب. لكن ما حدث في تلك الليلة، وردة الفعل الإيرانية المذعورة، قلبا التوقعات وأظهرا ما لم يكن منظوراً.