إنْ كنتَ لا تدري فتلك مصيبة

2019.05.24 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ما من شك في أن التصعيد العسكري الذي بدأ به نظام الأسد وحلفاؤه الروس منذ الخامس والعشرين من نيسان الماضي، تجاه إدلب وريف حماة الشمالي، إنما يعكس التعبير الواضح عن تعثر التفاهمات بين الأطراف الراعية لأستانا، وتحديداً بين روسيا وتركيا بالدرجة الأولى، وبعكس موجة التفاؤل التي أظهرتها وفود أستانة من المعارضة السورية قبيل انعقاد اللقاء الثاني عشر في (نور سلطان)، إذْ كان يتوّهم البعض بأن اللقاء المذكور سيتمخض عن تشكيل اللجنة الدستورية المفترضة، إلّا أن ما قام به الروس، وتزامناً مع انعقاد أستانا 12، لا يوحي بأن الخلاف يمكن أن يكون محصوراً حول تشكيل اللجنة الدستورية، كما أنه من المؤكّد أن العقبة الأساسية أمام تشكيل تلك اللجنة ليس هو الخلاف حول ( ستة أشخاص) مرشحين في قائمة ما يُسمى منظمات المجتمع المدني، بل ما تؤكده المعطيات الميدانية والسياسية يحيل إلى أن رغبة الروس الجامحة نحو حيازة مواقع جغرافية متقدمة على الأرض، هي اكبر بكثير من حرصهم على تشكيل اللجنة الدستورية، بل وعلى مسار أستانا برمته، وليست مسألة الخلاف حول ( ستة أشخاص) في إحدى القوائم الثلاث سوى ملهاة، أو أضحوكة يستخدمها بوتين للاستثمار الإعلامي، ثم لكسب مزيد من الوقت، بغية قضم مناطق ومواقع جديدة على الأرض، تساعد النظام وحلفاءه في الزحف التدريجي نحو أدلب.

لقد حظيت حكومة بوتين بمباركة أمريكية على كل ممارساتها العدوانية بحق السوريين منذ ايلول 2015، إلّا أن هذه المباركة غابت في ايلول 2018 إبان اتفاق سوتشي، لأسباب لا يتسع السياق لذكرها، أمّا وأن الفرصة أصبحت متاحة من جديد أمام الروس، فذلك ما لا يمكن الإطاحة به – وفقاً لحكومة بوتين – التي حرصت على إبلاغ واشنطن قبل بداية رفع وتيرة العدوان، ولم يمانع الأمريكان – وفقا لتصريحات جيمس جيفري إلى صحيفة الشرق الأوسط صباح العاشر من أيار الجاري، وكذلك وفقا لتصريحات وزير الخارجية مايك بامبيو في اليوم ذاته – طالما أن العملية الروسية ستكون محدودة – وفقاً لجيفري، أمّا ما مدى محدودية تلك العملية العسكرية، وكم ستستغرق من الزمن، وكم سيُقتل من السوريين، وكم سيتشرّد، فهذا ما لا يدخل في حسابات الأمريكان والروس معاً. 

تفاهمات أستانا باتت فضاءً يستثمره الروس كيفما يشاؤون

ما بات واضحاً هو أن تفاهمات أستانا باتت فضاءً يستثمره الروس كيفما يشاؤون، طالما أنه لا يوجد ما يلزمهم بوقف إهدار دم السوريين، أو التقيّد بأية مواثيق، سوى الرادع الأمريكي، الذي لا يتحرك إلّا حين يتم التجاوز على مصالحه، الأمر الذي أزعج الشريك التركي، إذْ بات يدرك أن تجاوز النظام وحلفائه للخطوط المتفق عليها، لا تتوقف تداعياته على الجانب الإنساني فحسب، بل هو بداية التهميش الفعلي لدور أنقرة في مسار المفاوضات،فضلاً عن رغبة روسية بتجريد تركيا – بالتدريج – من أهم الأوراق التي تمسك بها.

وفي موازاة ذلك، كان من المتوقع أن يجد مفاوضو المعارضة السورية في الامتعاض التركي من سلوك موسكو، وفي العدوان الوحشي على إدلب وريف حماة، فرصة للتحلل من خديعة أستانا التي حشرهم بها بوتين، والتمسك بالعودة إلى القرارات الأممية على أقل تقدير، طالما أن أستانا بُنيتْ على جريمة تهجير سكان حلب الشرقية، واستمرت بسلسلة من الجرائم، وما يريده نظام الأسد – اليوم – من إدلب، لا يختلف عما أراده من الغوطة والقلمون ودرعا، إلّا أن الواقع غير ذلك، إذْ إن ما يقلق هيئة التفاوض، هو خشيتها على تعثّر مسار العملية السياسية، و كذلك قلقها على مستقبل تشكيل اللجنة الدستورية، بل إن تصريحات رئيس هيئة التفاوض إلى وكالة الأناضول في العشرين من أيار الجاري تُظهِر بوضوح تعلّقاً شديداً ب(ملهاة بوتين)، بالتوازي مع تجاهل تام لما يسعى إليه نظام الأسد، الذي أكد مراراً أنه غير معنيٍّ لا بجنيف ولا بأستانا، وأنه ماضٍ في ما يدعوه ( المصالحات المحلية)، وهل ما حصل في الغوطة ودرعا هو غير ذلك؟. إن كان مفاوضو المعارضة لا يدرون بذلك -  ولا اعتقد أنهم يجهلون هذه الحقيقة – فتلك طامّة كبرى، وإن كانوا يعلمون، فما الذي يمكن قوله؟.

إن رفض تركيا لمسعى روسيا باحتلال مناطق ذات أهمية إستراتيجية حول إدلب، وترجمة هذا الرفض بدعم الفصائل المقاتلة للتصدّي لتقدّم قوات النظام، أيّاً كانت الدوافع والغايات، كان يمكن أن يكون الفرصة الأخيرة لمفاوضي المعارضة السورية برفع الصوت عالياً ومكاشفة السوريين بكل صدق عن مجمل مطبّات أستانا التي أورثت كل هذه الكوارث، وكان يمكن لهم – لو أرادوا – أن يجهروا بأنهم لم يحصدوا من (أستانا بوتين) سوى الخيبات المتتالية، إلّا أن عدم قدرتهم، بل وإصرارهم على التمسّك بأوهام القاتل الروسي، على الرغم من انزياح المظلة التركية عن مسار أستانا، فذلك ما يحتاج إلى أكثر من تفسير.

دعم تركيا للفصائل المقاتلة في مواجهة العدوان الروسي الأسدي هو قرار تركي ولمصلحة تركية

يبقى القول: إن دعم تركيا للفصائل المقاتلة في مواجهة العدوان الروسي الأسدي هو قرار تركي، ولمصلحة تركية، وليس مبادرة قتالية سورية انبثقت من خيار السوريين، ولكن حين تتقاطع هذه المصلحة التركية مع الحفاظ على أرواح المدنيين والحيلولة دون تشريدهم فهي مُرحَّبٌ بها. ثم لا أعتقد أن اشتراك هيئة تحرير الشام (النصرة ومشتقاتها) في المعركة الحالية، أيّاً كان حجم هذه المشاركة، سيغيّر من ماهيتها، أو تقييم دورها، لأن وجودها - أعني النصرة - لم يكن بإرادة السوريين، ولا هم اختاروها للدفاع عنهم، أو ادّعوا أنها هي الحاملة لمشروعهم الوطني والمدافعة عن قضيتهم، وإنما هي من فرضت نفسها عليهم، وربما الدور الذي مارسته بحق القضية السورية، لا تقل خطورته فداحة عما قام به نظام الأسد، ولكن يمكن اختزال جوهر المشكلة بوجود أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من المدنيين في إدلب، هم مهددون بالموت أو النزوح إن تمكّنت قوات الأسد من اجتياحهم، وإن الوقوف إلى جانب هؤلاء ليس انحيازاً سياسياً أو أيديولوجياً إلى جانب أي جهة مقاتلة، بقدر ما هو موقف أخلاقي بالدرجة الأولى.

إن الصمود الذي تبديه الفصائل المقاتلة في وجه العدوان الروسي الأسدي هو في غاية الأهمية، بل إن مقاومتهم وتضحياتهم في سبيل ردع حمم الموت عن أهلنا لهو موقف ليس بمقدور أحد المزايدة عليه أو نكرانه، ولكن في الوقت ذاته، هل تجسّد هذه الانطلاقة القتالية مقدّمة لأي نصر سياسي؟ أو هل هي انبثاقة استراتيجية جديدة في مواجهة نظام الأسد وحلفائه، حاملةً ملامح مشروع وطني ينبثق عن إرادة سورية؟ لا أعتقد ذلك، لعل السبب هو أن هذه المعارك تأتي تلبية لحاجة مرحلية وبدوافع إقليمية بالوقت ذاته، وغالباً ما تنتهي بانتهاء هذه الحاجات، إذ لقد شهدنا بتاريخ 29 – 10 – 2016 تقدّما مفاجئاً هائلا على الجبهة الجنوبية الغربية في حلب، حيث أوشكت الفصائل المقاتلة على محاصرة حي الحمدانية، والالتفاف إلى حي الزهراء، وقد أخذتنا العزّة – آنذاك – بأن هذه الخطوة ستكون محاولة لفك الحصار عن حلب الشرقية، إلّا أننا فوجئنا بتراجع سريع، راح ضحيته المزيد من الدماء. ولعل الأمر ذاته تكرر بتاريخ 19 – 3 – 2017 حين تقدمت فصائل أحرار الشام وعدد من الفصائل المقاتلة نحو ساحة العباسيين بدمشق، وظن الكثيرون أنها ستكون خطوة نحو فك الحصار عن حي جوبر، ثم يتلوها نقل المعركة إلى داخل مدينة دمشق، إلّا أن هذه النقلة النوعية لم تدم لأكثر من أيام، تلاها تراجع مريب.

في حالة اليُتْم المطبق الذي يشعر به السوريون، وكذلك في ظل حالة استلاب القرار والمبادرة الوطنية، تصبح حياة السوريين ومصائرهم – للأسف الشديد – مرهونة بتقاطع أو تنابذ المصالح الدولية والإقليمية، وتعود جلّ همومهم – بعد مضي ثماني سنوات من عمر الثورة – إلى حالتها الفطرية المتمثلة بالحفاظ على الحياة.