icon
التغطية الحية

إلياس الرحباني موهبة مميزة وانتماء ضائع

2021.01.05 | 21:18 دمشق

image.jpg
فاطمة ياسين
+A
حجم الخط
-A

كان إلياس الرحباني يتوسط لجنة تحكيم تعمل في برنامج لاكتشاف المواهب الغنائية، فيحافظ على حبوره بابتسامة دائمة على وجهه وهو يتابع المتقدمين الشبان، ويصيغ السمع بطريقة تبدو أكثر اهتماما للمتقدمات، لكنه لا يتردد في رفض معظمهن، فيقدم رأيا فنيا مقتضبا وقد يكتفي أحيانا بتعليق ساخر يزداد فيه حبوره وسعة ابتسامته، لكن المتسابق كان ينتظر دائما سماع عبارة إلياس الأثيرة "منشوفك ببيروت" التي تغنيه عن كل رأي..

في أنطلياس القرية المحاذية للبحر والشمس ولد إلياس الرحباني، في العام 1938، ويقول بأنه نشأ في بيت متواضع، بالكاد يوجد فيه أثاث كاف، لكن فجأة ظهر في البيت بيانو، وهو حتى لحظة وفاته لم يعرف كيف جاء البيانو إلى البيت، ولكنه لم يشغل باله في الأمر كثيرا فقد شغلته مفاتيحه السوداء والبيضاء والصوت الجميل الذي يخرج منه، واكتشف في تلك اللحظة عشقه للموسيقا، وهي ليست مجرد عشق وإنما جين بنيوي أيضا، فالتحق بمؤسسات تعليمية موسيقية في الأكاديمية اللبنانية وفي المعهد الوطني للموسيقا قبل أن يبلغ الثامنة من العمر، وتابع تعليمه بطريقة خاصة على أيدي أستاذة فرنسيين، فيما كان يرافق شقيقيه عاصي ومنصور في رحلات عملهما في المقاهي والمنتديات الليلة.

في التاسعة عشرة من عمره استطاع الحصول على عقد عمل مع هيئة الإذاعة البريطانية فألف أربعين "اسكتشا" وأغنية ضمن برنامج اسمه صياد الحلوين، وهو مجموعة مقالب طريفة يقوم بها شابان.. الخطوة التالية كانت في العام 1961 حين قدم أغنية لوديع الصافي بعنوان يا قمر الدار يقول فيها وديع:

يا قمر الدار سلّم عالحبايب

يا قمر الدار قلن للحبايب

يبعتوا مكتوب، يطمن المحبوب

ويطمنله قلبه اللي دايب

عيُّن بعدها مباشرة مسؤولا فنيا في الإذاعة اللبنانية عن الموسيقا الغربية، كان إلياس قد بلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما فيما كان الأخوان رحباني يقدمان مسرحية جسر القمر، وعندما يسأل: لماذا لم تشكل مع أخويك ثلاثيا؟ يجيب: خمسة عشر عاما مدة زمنية كافية لتشكل فارقا وتحول دون تشكيل الثلاثي. بقي إلياس الرحباني في إذاعة لبنان عشر سنوات، ويبدو أنه كان على موعد مع تلحين أغنية غريبة تحركت في شوارع سوريا ولبنان وتحولت في وقت ما إلى ما يشبه الفولكلور وهي أغنية قدمها ملحم بركات في مسرحية موعد صيف، مثّل فيها دور قبضاي يغني: عشر حدعش طنعش، دقت الساعة بالليل.. كانت بداية السبعينات وقد استوعب الجيل النكسة، فلعبت أغاني الرجولة الطافحة دورا مهدِّئا فعالا وطُعِّم بعضها بلحن إلياس الرشيق.

بعد سفر قصير إلى باريس مع عائلته عاد إلياس الرحباني ليعمل بدوام كامل كملحن ومؤلف ومنتج موسيقي، ومارس المهنة من منطلق الموهبة، فوضعها في خدمة الجميع، وقدم ألحانا إلى عدد من مطربي لبنان والعالم العربي، وكثير من ألحانه تتردد على الألسنة بكثرة، واستخدم بعضها كمقدمة لمسلسلات تلفزيونية ناجحة من أجملها موسيقا مسلسل عازف الليل، كما قدم موسيقا تصويرية لأفلام الثمانينيات منها دمي ودموعي وابتسامتي، وقد قصده مطربون كبار من عيار وديع الصافي ونصري شمس الدين وصباح وماجدة الرومي لتقديم ألحان لهم، كما أنه قدم ألحانا أخرى ذات مستوى مختلف لمطربين من نكهة خاصة وأتى تعاونه مستغربا في "بدي عيش" مع هيفاء وهبي.

لم يجد إلياس حرجا كبيرا في الجهة التي يقدم لها لحنا فكان الرجل "يمارس" الموسيقا ويقدمها بطريقته الخاصة، فقد لحن نشيد البعث السوري ولحن للبعث العراقي نشيد شعلة البعث، ولحن أغنية كانت من رموز حزب الكتائب اللبناني يقول مطلعها "عالصخر منحفر كتايب"، ولحن نشيد الفرانكفونية في تحية لوفود البلدان التي زارت لبنان في القمة الفرانكفونية.. لا تعبر هذه الألحان عن إلياس الرحباني الموسيقار ولا عن فنه ولكنها تقدم إلياس ذي الهوية السياسية الضائعة، أو الغائمة، والمستوى اللحني لهذه الأغاني يشير إلى أن الموسيقار إلياس يمكن أن يقدم ألحانا استهلاكية لتماشي أفكارا سياسية قابلة للانطفاء.

حافظ الرحباني على علاقات مقبولة مع شقيقيه صاحبا التجربة الموسيقية الرائدة، رغم أنه لم يلحن إلا ست أغانٍ لفيروز وهو عدد قليل جدا إذا ما قيس بعدد أغنيات فيروز أو عدد ألحان إلياس، كانت ألحان إلياس لفيروز مميزة وبارزة مثل: طير الوروار، وحنا السكران.. أما علاقته بفيروز فيقول إنها متينة وثابتة. يرحل إلياس اليوم، وكان قد قال إن من سبقه كأخويه وزكي ناصيف وفيلمون وهبي قد ماتوا من القهر وإنه مثلهم سيموت من القهر.. ولكن إلياس مات بكورونا وهو داء حديث لا دخل للموسيقا به، لكنه فيروس بدأ بتشكيل حياتنا المستقبلية وها هو يضع حدا لواحد ممن ساهموا بتأثيث مكتبة مهمة للموسيقا العربية.

كلمات مفتاحية