إغراق "طرابلس" كنموذج لتعميم الفوضى والانتقال إلى دولة الانهيار

2022.04.28 | 05:40 دمشق

2022-04-24t144711z_1512445145_rc2ott96rmol_rtrmadp_3_lebanon-boat.jpg
+A
حجم الخط
-A

أسئلة كبيرة وكثيرة تفرض نفسها على المشهد الداخلي اللبناني خلال الأيام الماضية نتيجة للتطورات الميدانية والسياسية والاقتصادية وهي: ماذا يُحضّر للبنان؟ وإلى أين يجري أخذه؟ وأي نفق يُراد إدخاله فيه؟ ومن يدفع الى ذلك؟ وخدمة لأيّ أجندة؟

وما فرضَ هذه الأسئلة، مجموعة من الأزمات المتنقلة التي طفت تِباعاً وبشكل مريب على السطح قبيل ثلاثة أسابيع على الانتخابات، وتلك التطورات العاجلة أخضَعت الواقع اللبناني لعوامل توتير خطيرة، أحاطت الاستحقاق الانتخابي بعلامات استفهام حول مصيره ووضَعته في خانة الاحتمالات التي تؤدي إلى "تطيير" الاستحقاق. وهو الأمر الذي دفع مستويات سياسية متعددة إلى رفع الصوت التحذيري من أي محاولات لنسف الانتخابات النيابية وتأجيلها، معتبرة أنّ حصول ذلك معناه دخول لبنان في مجهول.

 وكان البروز الأخطر لتلك العوامل ما جرى في طرابلس نهاية الأسبوع الماضي بعد إغراق الجيش اللبناني لمركب مهاجرين غير شرعيين في المياه الإقليمية اللبنانية والتطورات التي حصلت بعدها من اشتباكات وظهور مسلح كثيف، وقطع للطرقات، ما حوّلَ المدينة إلى ساحة فوضى. وقابَلتها تحرّكات احتجاجية وقطع طرقات في العديد من المناطق وصولاً إلى بيروت والبقاع وصيدا، وقابَلها أيضاً حادث مريب تمثّل في الاشتباكات العنيفة التي حصلت في بيروت.

والمؤكد أن ما جرى في طرابلس نتيجة التنصل المستمر من المسؤولية من قبل الإدارة الحاكمة في البلاد والتي يعتبر حزب الله درّة تاجها وعنوانها الرئيسي، فهو يحمل للمدينة حقداً دفيناً نتيجة خيارات المدينة العربية والسنيّة وارتباطها بمحيطها الشاسع عربياً وتركياً، إضافة إلى التنصل السياسي من المسؤولية عن كل الجرائم الحاصلة والمستمرة بحق العاصمة الثانية للبنان منذ عقود من الزمن، ويترجم ذلك نموٌ مستمرٌ ومتسارعٌ للفوضى كما تجلّى خلال اليومين الماضيين في المظاهر المسلحة في طرابلس وبيروت. بغض النظر عن خلفية السلاح، أجاءَ استخدامه في إطلاق نار للتعبير عن حالة الغضب نتيجة إجرام الدولة تجاه شريحة واسعة من اللبنانيين، أو في خلاف عائلي أو محلي، لكن الأهم أننا أمام فوضى أمنية تطل برأسها كلما لزم الأمر للمجموعة الحاكمة، وهي عملياً تمرين على ما سيسود في حال استقالة الحكومة ودخول البلاد في نفق مظلم من دون أي أفق.

والعديد من الباحثين يعتقدون أن غياب الدولة وانعدام الأفق وانهيار الاقتصاد والقطاع المالي كلّها عوامل تُنتج مجموعة علاقات جديدة بين المواطنين أنفسهم، وبينهم وبين النخبة السياسية وميليشياتها كذلك. حادث غرق قارب الموت في طرابلس وسقوط هذا العدد من الضحايا لن يكون وحيداً، بل الأرجح أن يتكرر تماماً مع التفلّت الأمني الذي يزداد ، ولو ببطء، لكنه في نهاية المطاف سيصب في مصلحة القوى السياسية الميليشياوية كونها قادرة على توفير الحماية وتحديداً حزب الله وخصومه في البيئتين المسيحية والسنية والأحزاب الموالية له اليسارية والقومية. 

على مدار العقدين الأخيرين باتت طرابلس اللبنانية تختصر مشاهد الظلم والتنكيل اللبناني والتعاطي بقبضة الأمن والعسكر والترهيب بدلاً من التعاطي الأخلاقي لأهم مدينة مطلة على المتوسط  ومطلة على ثروات هائلة

وعلى مدار العقدين الأخيرين باتت طرابلس اللبنانية تختصر مشاهد الظلم والتنكيل اللبناني والتعاطي بقبضة الأمن والعسكر والترهيب بدلاً من التعاطي الأخلاقي لأهم مدينة مطلة على المتوسط  ومطلة على ثروات هائلة وتعدّ رأس حربة في الدفاع عن حركات التحرر منذ ستين عاماً، وعليه فإن الفوضى التي يُراد لها أن تبقى مسيطرة على المدينة ليست نتيجة ظرف اقتصادي ومعيشي بل هي ممنهجة ومدروسة.

 وثمة من يسعى إلى تعميمها مستقبلاً على كل المساحة اللبنانية المناوئة لحزب الله والنظام السوري. والمؤكد أن الشاطئ الشمالي للبنان وتحديداً بحر طرابلس مراقب ومرصود وتحت العين الإقليمية والمحلية، في حين حدودها مع سوريا عبر عكار باتت مشرعة للتهريب والفوضى، لذا فإن السلطة السياسية بشقيها (حزب الله والتيار العوني) يريدان تبديل الصورة التي أعلنتها طرابلس في 17 تشرين والتي أكدت مراراً أنها جزء فعلي من الدولة الوطنية وذلك لإعادة الصورة التي عمل حزب الله وميشال عون وحلفاؤهما على ترسيخها في المعادلة "طرابلس هي قندهار الشرق" وهناك مشروع فعلي لتهجير النخب منها بسبب تحولها إلى مدينة غير قابلة للاستثمار بكفاءاتها وشبابها، فيجري تفريغ المدينة بداية، في تكرار مشاهد قوارب الموت السورية التي غرقت في البحر، لتجد سوريا نفسها خالية من سكانها، وغالبيتهم من الشباب.

وأمام كل هذه التحديات الجمّة التي يشهدها لبنان تبقى الانتخابات القادمة رغم أهمية المشاركة فيها بكونها إحدى قلاع التعبير عن الرفض والغضب، في أنها ستكون قبولاً وتطبيعاً مع الوضع القائم بموازين قواه الحالية التي يتحكّم بها حزب الله ومن خلفه إيران، لذا فإنه كان أوّل المتحمسين والمندفعين لقمع الانتفاضة الشعبية حمايةً للسلطة القائمة والتي يشكل هو عمودها الفقري. هكذا بات سؤال التغيير سؤالاً متأخّراً، لكن على الرغم من ذلك فإنّ عدم حصول تغيير سياسي حقيقي خلال الانتخابات يجب أن يكون محفّزاً للتفكير في أسباب محدودية التغيير في هذه الانتخابات، وهذا سيؤدي مع حوادث مشابهة لما حدث في طرابلس لخلق إدارة هجينة للأمن وما تبقى من اقتصاد داخلي ضئيل، في ظل الانهيار اللاحق لقدرات الأمن والعسكر اللذين يتعرضان لاستنزاف متواصل في الموارد والقدرات اللوجستية.

وبالتالي من الضروري في الفترة اللاحقة التعاون بشكل متزايد بين الدولة وبين قوى محلية لفرض الأمن وتحديداً الحزب إيّاه الذي بات يمثل جمهورية عسكرية متعددة الخيارات، وسيكون السؤال الرئيسي هو: ما المانع في التعاون بين مسؤول عسكري أو أمني شرعي وآخر في ميليشيات دينية أو طائفية؟ وخاصة إذا كانت لديهما مرجعية سياسية واضحة المعالم، وهذا شكل من التعاون كان قائماً بالتنسيق مع بعض الميليشيات اللبنانية خلال الحرب الأهلية، ولكنه سيتوسع ليُصبح قاعدة لا جزئية في المشهد الأمني.

ما هو مؤكد أن الميليشيا السائدة في لبنان حريصة على فرض نموذجها كنموذج جاذب في البلاد وضمن سياقات واضحة، طالما أن حزب الله هو الميليشيا الأقوى والأقدر والأشمل، وطرابلس المتمسكة بالدولة المركزية والوطنية يراد لها أن تكون شعلة الانضواء تحت سقف خيارات العصابة والميليشيا والقبول بصيغة التخلي عن الدولة النهائية، وحزب الله بات يراقب نسبة الحضور المدني والمشاريع الوطنية في طرابلس وهذا يشكل للحزب أزمة وجودية لا يمكنه الخروج منها إلا بتعميم الفوضى والسماح لها بالتمدد.

وهو بات يدرك مؤخراً أن دولة ما بعد الطائف، والقائمة على توزيع وظائف الدولة على الأزلام والمناصرين، لم تعد قابلة للحياة بعد الانهيار المالي وعدم وجود قدرة على التوظيف وخلق الميزانيات. وبالتالي يصبح الخيار هو دولة الميليشيا التي ترجمها الحزب في استجلاب الوقود من إيران بعد فشل الدولة على تأمينها خلال الصيف، ويجري حينئذ الخلط بين النظام الحالي المهترئ والمتداعي وبين ما كان قائماً في الحرب الأهلية من ميليشيات محلية، إذ إن السلطة السياسية قادرة على ترك مؤسسات الدولة تنهار، لكن عليها توفير ميزانيات خارجية أخرى لمكوناتها الخارجة عن القانون والميليشياوية، وهذا الواقع يطلّ برأسه علينا. كان بالإمكان تجنبه عبر مقاربة مالية واقتصادية مختلفة بعد 17 تشرين بدلاً من الاستمرار في الصرف التعسفي للأموال، لكن المؤكد أن الذهاب لهذا المصير السوداوي مشروع سياسي وليس محض إهمال أو مصادفة.