إعادة التفكير بالغرب

2023.04.20 | 06:12 دمشق

إعادة التفكير بالغرب
+A
حجم الخط
-A

يحثّنا الحديث عن صعود الصين واحتمال تغيّر موازين القوى العالمية على إعادة التفكير بالغرب المهيمن على العالم منذ عدة قرون، فنحن كلنا أبناء الغرب. من الناحية المادية كلنا مستفيدٌ من المخترعات الغربية ومن الناحية المعنوية كلنا نعيش على أفكار الغرب: دولنا ونظمنا ولباسنا وأسلوب تفكيرنا ومعاييرنا الذوقية.
لقد حقّق الغربيون إبان عصر النهضة الأوروبية أعظم إنجازاتٍ عرفتها البشرية. فالعقلانية العلمية، ونزع السحر عن العالم، والنجاح في بناء الدولة والمؤسسات، وإنكار الحقّ الإلهي للملوك كلها أشياء ما كنا لننعم بها لولا النهضة الأوروبية لكن الغرب مغرور؛ مغرورٌ بذكائه وجماله وقوته وغناه. وأحياناً وسط هذا الغرور ينسى الغرب نفسه وينسينا أنفسنا فنعجز عن التفكير المستقلّ بالغرب وبأنفسنا على حدّ السواء.
حسب الرؤية الغربية للعالم فإن أساس الغرب هو قارة أوروبا. وهنا تبدأ المفارقات جغرافياً وتاريخياً. جغرافياً لا يوجد شيء اسمه قارة أوروبا، بل الأصح أن هذا الجيب الصغير هو جزء من قارة آسيا، فهو ليس بهذه الفرادة المكانية التي تُنسب له.

اليونان مثلاً اعتبروا أوروبا التي تقع وراء بلادهم مجرّد قفار باردة وأطلقوا عليها اسم الأرض المفتوحة ولم يكلّفوا أنفسهم عناء استكشافها

تاريخياً، تُردّ أوروبا إلى اليونان والرومان، مع أن أولئك صدروا عن ثقافةٍ شرقية منبعها -سكانياً وحضارياً- الأناضول وبلاد الرافدين ومصر. فاليونان مثلاً اعتبروا أوروبا التي تقع وراء بلادهم مجرّد قفار باردة وأطلقوا عليها اسم الأرض المفتوحة ولم يكلّفوا أنفسهم عناء استكشافها. أما الرومان فقد كانوا أول من جاس خلال تلك الأنحاء القصيّة ووصلوا في غزواتهم حتى بريطانيا وهولندا، غير أنهم اعتبروا كل من ورائهم من قبائل شمالية مجرّد بدائيين همج وأطلقوا على مضاربهم اسم بلاد البرابرة. أما كلمة أوروبا نفسها فهي كلمة عربية معناها الغروب تُطلق تحديداً على بلاد اليونان والرومان. بمعنى فإن العرب هم من أطلقوا على اليونان والرومان اسمهم، وهذا شأن الأب عندما يأتيه ولد، فهو يسمّيه بالاسم الذي يشاء. لكن الكلمة توسّعت لاحقاً لتشمل كل الدول التي يتشكل منها في زماننا الاتحاد الأوروبي.
عانت أوروبا -عدا اليونان وإيطاليا- عبر التاريخ من العزلة عن العالم القديم وحوض المتوسط الدافئ بفعل ثلاثة عوامل: البرد والغابات والجبال. وهناك من يرى أن كل ما يحصل منذ خمسمئة سنة إلى اليوم هو نتيجة خروج المعزولين من عزلتهم. فالعامل الأهم في سفر الخروج هذا كان أولاً إزالة الغابات التي مكنت الجرمان من الاستقرار في ألمانيا، والغال في فرنسا، والساكسون في بريطانيا. وساعدت إزالة الغابات في العصور الوسطى على نمو الإقطاعيات الزراعية، وفي عصر النهضة في نمو صناعة السفن وتكثيف حركة الكشوف الجغرافية.
نشأت أوروبا الكبرى كفكرة فقط في أثناء الحروب الصليبية إذ أعطت نظرة الأوروبيين لأنفسهم كمسيحيين في مواجهة عالم إسلامي معادي شعوراً بالوحدة، مع أن المسيحية بحدّ ذاتها ديانة شرقية انتقل مركزها للغرب بعد أن انتشر الإسلام في معاقلها الأصلية. وقد أدى احتكاك المعزولين بالشرق خلال تلك الحروب لانطلاق عصر النهضة العلمية ثم لعب اكتشاف الفحم الحجري كمصدر للطاقة دوراً مهماً في تعزيز دور المعزولين وإعطائهم كفّة راجحة بما وفره الفحم من إمكانية تطوير الآلة وتدشين أنماط جديدة تماماً في الحضارة. ثم دخل المعزولون مسرح التاريخ.
فها هي هولندا، هذا البلد الصغير تُذكر أول مرة في التاريخ ككيانٍ مستقلّ في أثناء الحروب الصليبية. ثم أثرت هولندا كثيراً في القرن 17 عندما غزت بأساطيلها إندونيسيا وأرغمت السكان على زراعة القهوة بدل الرز من أجل بيعها للأوروبيين عبر نهر الراين ما تسبب بحصول مجاعات انتهت بأن اعتنق الناس هناك الديانة الإسلامية بغضاً لما رأوه من جشع الغزاة الهولنديين وقسوتهم، مقارنةً بالتجار والمتصوفة العرب الذين كانوا يجوبون تلك الأنحاء. وهكذا اعتنق أكبر بلد مسلم في العالم اليوم الإسلام بدل البروتستانتية الهولندية.
دخلت إسبانيا مسرح التاريخ بعد ذبح ملايين العرب واليهود وطردهم من البلاد. وبلغ من طغيان الإسبان إرسالهم كريستوف كولومبوس في بعثة بحرية غرباً لتجديد الحروب الصليبية والقضاء على المسلمين، لكن كولومبوس اكتشف أميركا بدل ذلك ثم تتالت الحملات التي نضحت الذهب من أميركا الجنوبية حتى سال لعاب بريطانيا التي شكّلت قوة قرصنة كبرى لاعتراض السفن الإسبانية المحملة بالذهب فكانت معركة الأرمادا البحرية التي كانت الظهور العلني الأول لبريطانيا على المسرح.
بعد هولندا وإسبانيا وبريطانيا تسابقت الدول الغربية الخارجة توّاً من عزلتها في الهيمنة والسطو على العالم تماماً كما تسابقت في الفكر والتنظيم والمخترعات. فرنسا مثلاً نهبت الجزائر وقتلت مليون إنسان هناك. بلجيكا استباحت الكونغو وسطت على ثرواتها المعدنية. ألمانيا احتلّت ناميبيا وعاملت السكان هناك على أنهم نوعٌ من القردة العليا. ولم تبرد نار الطغيان الأوروبي إلا بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية حيث ذُبح ستين مليون إنسان في أوج انتصار الحضارة وأبيد ستة ملايين يهودي عند أعلى درجات التسامح.

رغم روعة الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل النقل المريحة فإن الغرب ما يزال يساعد طغاة العالم في بناءٍ جيوشٍ ضارية لذبح شعوبهم إذا لزم الأمر

لا عجب إذاً أن هناك من يرى أن صعود الغرب -وخصوصاً بعد أن لحقت أميركا بالركب بعد قنبلة هيروشيما- هو صعودٌ للتوحش في العالم، رغم كل هذه الثمرات العظيمة للحضارة الغربية التي ننعم بها. فنحن ما نزال نشهد فصول التوحش بطرق أخرى حتى بعد انقضاء حقب الغزو والاستعمار.
ورغم روعة الإنترنت والهواتف الذكية ووسائل النقل المريحة فإن الغرب ما يزال يساعد طغاة العالم في بناءٍ جيوشٍ ضارية لذبح شعوبهم إذا لزم الأمر، كما فعل بشار الأسد في سوريا حيث اشترى من شركاتٍ غربية المواد الكيميائية التي أباد بها السوريّين ثم ها هو ما يزال رئيساً مُعترفاً به من قبل الغرب. ولنا في الحرب الأخيرة في أوكرانيا عبراً كثيرة، فبدل لجم الشرّ المتيقظ لم تبق دولة غربية إلا سكبت الزيت على نار المعركة وأرسلت الأسلحة للأوكرانيين. إنها لحقيقةٌ لا ينكرها أحدٌ أن الدول الغربية الكبرى هي أيضاً معامل أسلحةٍ كبرى. ثمّ لما سُمح بتصدير القمح الأوكراني وسط المعركة لتجنّب حصول مجاعة عالمية أبدت الدول الأوروبية أنانيةً واضحة وجعلت السفن المحمّلة بالحبوب تبحر نحو شواطئها متجاهلةً الدول الإفريقية الفقيرة التي كانت في أمسّ الحاجة إليها. ونحن نرى فوق ذلك غطرسة الغرب في التعامل مع اللاجئين وضحايا النزاعات وتعاليه على شعوبٍ وحضارات لا تعدم بدورها إسهاماتٍ مهمة في مسيرة الحضارة الإنسانية.