
بينما تمثل إعادة الإعمار في سوريا فرصة استثنائية للدول وشركاتها، تشكل في الوقت ذاته تحدياً ضخماً أمام أي حكومة سورية مقبلة، في ظل الدمار الهائل الذي طال البنية التحتية والقطاعات الحيوية، مما يعكس حجم المهمة الشاقة التي تنتظرها.
وخلال لقاءاته السياسية وتصريحاته الإعلامية الأخيرة، كانت التنمية الاقتصادية محور تركيز قائد الإدارة السورية الجديدة، أحمد الشرع، مؤكداً على عنوان بارز وهو أن "سوريا تمتلك بيئة خصبة" للاستثمار.
ومع غياب إحصائيات دقيقة على الأرض، تختلف التقديرات بشأن كلفة إعادة الإعمار بين 300 و500 مليار دولار. لكن الأمر الوحيد المتفق عليه هو أن سوريا لن تكون قادرة على تحمل أعباء إعادة البناء بمفردها، مما يتطلب شراكات دولية ودعماً إقليمياً ودولياً لتحقيق ذلك.
وبالنظر إلى تجارب سابقة ناجحة، ظهرت مقترحات مؤخراً حول إمكانية تطبيق نماذج اقتصادية مشابهة لتلك التي نفذت في دول مثل ألمانيا أو رواندا، وسط تحذيرات ومخاوف من احتمالية إغراق سوريا بالديون تحت ذريعة المساهمة في إعادة الإعمار.
في هذا السياق، تبرز تساؤلات عن التجارب التي يمكن الاستفادة منها، والتحديات التي قد تواجه إعادة البناء في المرحلة المقبلة. قسمها باحثون ومحللون اقتصاديون لموقع "تلفزيون سوريا" إلى عقبات خارجية وداخلية.
عراقيل الإعمار
منذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط نظام الأسد، كان ملف الإعمار حاضراً على الدوام خلال الاجتماعات المستمرة التي عُقدت في دمشق بين الإدارة السورية الجديدة ووفود الدول العربية والأجنبية، أو من خلال التصريحات الدولية والعربية التي توالت حول استعدادها للمساهمة في إعادة بناء سوريا.
وأعلن صندوق النقد الدولي، عبر متحدثته جولي كوزاك، استعداد الصندوق للمساعدة في إعادة الإعمار بالتعاون مع المجتمع الدولي. في حين صرح المتحدث باسم الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، أنور العوني، بأن الاتحاد يدرس جهود إعادة الإعمار في سوريا، مشدداً على أن التفكير في هذا المسار ما زال مستمراً.
على الجانب التركي، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان أهمية اتخاذ خطوات عاجلة للمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وأصدر تعليماته للوزراء للمشاركة في هذا الملف. كما أكد في أكثر من مناسبة أهمية التحرك السريع لدعم العملية.
ورغم التفاؤل الذي حملته تصريحات الدول، فإن معظمها جاء مشروطاً بظروف مستقبلية، إذ ربطت الأطراف الدولية مشاركتها بتحقيق خطوات سياسية ملموسة على الأرض، مثل ضمان حقوق الأقليات وحماية حقوق المرأة، بالإضافة إلى صياغة دستور جديد.
بل إن بعض الدول ذهبت إلى حد اشتراط تحقيق مطالب سياسية محددة، من بينها انسحاب القوات الروسية من سوريا كشرط أساسي للمشاركة في عملية إعادة الإعمار.
لن تكون عملية إعادة الإعمار مهمة سهلة أمام الحكومة المستقبلية، إذ تُعد واحدة من أكثر التحديات تعقيداً وصعوبة. فالتنمية المستدامة تواجه سلسلة من العقبات المتنوعة، التي صنفها الباحث السوري سنان حتاحت إلى نوعين رئيسيين: عوائق خارجية تتعلق بالمواقف والسياسات الدولية، وأخرى داخلية ترتبط بالواقع السياسي، والإداري، والاقتصادي داخل البلاد.
وفي حديثه لموقع "تلفزيون سوريا"، اعتبر الباحث سنان حتاحت أن العقبة الرئيسية اليوم تتمثل في العقوبات الأوروبية المفروضة على مختلف القطاعات السورية، وأبرزها العقوبات التي تستهدف البنك المركزي، مما يؤدي إلى شلل كامل في التعاملات البنكية والمالية.
بالإضافة إلى ذلك، تطول العقوبات الجماعات المصنفة كإرهابية، مثل هيئة تحرير الشام. وأشار حتاحت إلى أن ارتباط الحكومة، بشكل أو بآخر، بعلاقة مع الهيئة يتسبب في تطبيق ما يُعرف بـ"إدارة المخاطر" (De-risking) من قبل البنوك والمؤسسات المالية الدولية، مما يضع الحكومة تحت ضغط كبير ويعيق قدرتها على تجاوز هذه الأزمة.
أما العقبات الأخرى غير القانونية، فهي إدارية الطابع وتتمثل في عدة جوانب، وفقاً للباحث، أبرزها غياب التشريعات الملائمة، مما يشكل تحدياً كبيراً. وهذا يستدعي من الحكومة العمل على صياغة مجموعة شاملة من القوانين الجديدة التي تسهم في تشجيع الاستثمار، وتوضيح العلاقة بين القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى تنظيم قوانين تداول الأموال، بما يشمل التعامل مع العملات الأجنبية وآليات التمويل من خلال القروض.
إضافة إلى التشريعات المتعلقة بحقوق الملكية وتأسيس الشركات، حيث كانت التشريعات السابقة تعيق التقدم في هذا المجال. ولكن ذلك يتطلب جهوداً كبيرة نظراً للترابط الوثيق بين القوانين المختلفة.
وبحسب حتاحت، فإن هناك عقبات تتعلق بالبنية الإدارية للدولة، التي تعاني من قدم وهشاشة كبيرة، حيث تفتقر إلى المرونة وتواجه عبئاً بيروقراطياً ثقيلاً. كما أن القطاع الحكومي يهيمن بشكل كامل، مما يستدعي إعادة هيكلة شاملة للدولة ومؤسساتها وإداراتها ووزاراتها السيادية.
أما العقبة الأخيرة، فتتعلق بالموارد البشرية. وبالرغم من وجود خبرات سورية متنوعة ومتميزة في العديد من القطاعات الرئيسية، فإن غالبية هذه الكفاءات موجودة خارج البلاد، مما يشكل تحدياً كبيراً لإعادتها وتشجيعها على العودة والعمل داخل سوريا.
ومن أجل تحقيق ذلك، يتطلب توفير بيئة آمنة ومستقرة، بالإضافة إلى موارد مالية تمكن من تقديم رواتب مناسبة، وهيكل إداري قادر على استيعاب هذه الكفاءات. كما يتطلب وجود قطاع خاص نشط قادر على استقطاب هذه الخبرات، إضافة إلى تطوير الكوادر البشرية الموجودة داخل البلاد، التي تأثرت بسنوات طويلة من الانقطاع عن التعليم والتدريب.
العراقيل السياسية والمالية
وإلى جانب العقبات السابقة، اعتبر الباحث الاقتصادي فراس شعبو أن أبرز العراقيل التي تواجه إعادة الإعمار هي ضعف الثقة واهتزاز مؤسسات الدولة، حيث تعاني هيكلية الدولة من التزعزع، إضافة إلى غياب الاستقرار السياسي حتى الآن. وهو ما يجعل مرحلة إعادة الإعمار متأخرة بطبيعتها، إذ تحتاج إلى استقرار سياسي وتوافق دولي واعتراف واضح بالحكومة الجديدة، ودعم من الدول الصديقة قبل التفكير في أي دعم أوروبي.
وقال شعبو لموقع "تلفزيون سوريا" إن جميع الوفود التي تزور سوريا تأتي بمطالب واضحة، بعيداً عن الدعاية التي تُروج. فكل طرف لديه مطالب محددة، وإذا لم تُنفذ، فلن يكون هناك دعم حقيقي، وهذا يضع الحكومة أمام خيارين: إما تلبية هذه المطالب أو الدخول في صراعات قد تزيد الوضع تعقيداً.
ومن بين العقبات الأخرى، بحسب شعبو، ضعف التمويل والإمكانات المالية. إذ إن رأس المال المادي في سوريا مدمر بشكل كبير، بينما الكفاءات البشرية موجودة في الخارج. بالإضافة إلى ذلك، يعاني رأس المال الاجتماعي، المتمثل في الخبرات والعلاقات المهنية، من تدمير كبير نتيجة للحرب.
إضافة إلى انتشار الفساد وغياب الشفافية، فالنظام السابق ترك إرثاً ثقيلاً من مؤسسات خاسرة وشركات فاشلة وفسادٍ مُستشرٍ، ما يجعل التعامل مع هذا الوضع يتطلب إصلاحات جذرية.
النموذج الأفضل
لن تكون عملية إعادة الإعمار في سوريا عشوائية، بل تتطلب خططاً استراتيجية محكمة تشارك فيها العديد من الدول، مستفيدة من تجارب ناجحة نُفذت في دول أخرى، مثل ألمانيا ورواندا. لكن يبقى السؤال: هل يمكن تطبيق هذه النماذج في السياق السوري بما يراعي خصوصياته وتحدياته الفريدة؟
من بين هذه الخطط التي بدأ الحديث عنها خلال الأسابيع الماضية هي "خطة مارشال" التي أطلقتها الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية لإعادة إعمار أوروبا. وارتبطت تسمية المشروع بوزير الخارجية الأميركي آنذاك، جورج مارشال، كونه هو الذي أطلق المبادرة خلال خطبة شهيرة ألقاها في حزيران 1947 أمام طلاب جامعة "هارفارد".
وبلغت المساعدات الإجمالية المقدمة بموجب الخطة نحو 13 مليار دولار أميركي (تعادل ما يزيد على 150 مليار دولار بأسعار اليوم)، وقدمت الأموال على شكل هبات مالية مباشرة لدعم مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار، وقروض مالية ميسرة لتعزيز الاقتصادات الأوروبية.
وشملت الخطة 16 دولة أوروبية، منها بريطانيا، فرنسا، ألمانيا الغربية، إيطاليا، هولندا، النرويج، اليونان، وأسهمت في تحقيق نمو اقتصادي سريع في الدول المستفيدة.
وبينما يؤكد حتاحت أن تنفيذ خطة "مارشال" غير ممكن في سوريا بسبب غياب التوافق الدولي والإقليمي في الوقت الراهن نحو اتخاذ قرار ذي صفة دولية لإعادة إعمار سوريا، يرى شعبو أن الخطة الأميركية كانت بمنزلة وسيلة للابتزاز السياسي والاقتصادي تجاه دول الاتحاد الأوروبي. فقد كانت الولايات المتحدة مستفيدة بالدرجة الأولى من هذا الأمر وليست مجرد داعم، حيث قامت على مبدأ المساعدة المشروطة، أي "أساعدك مقابل أن تعيد لي هذه المساعدات بشكل أو بآخر".
وبحسب شعبو، إذا أردنا النظر إلى نموذج مارشال كحل لإعادة بناء البنية التحتية في سوريا، فإننا بحاجة إلى التمعن في المقابل المطلوب دائماً عند قبول مثل هذه المساعدات، مؤكداً رفضَه المطلق الاعتمادَ على القروض في إعادة الإعمار لعدم إثقال كاهل الاقتصاد السوري بمزيدٍ من الديون التي ستزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي.
كما دعا بعضهم إلى تطبيق خطة رواندا التي أطلقتها الحكومة بعد الإبادة الجماعية في 1994، وركزت على إعادة بناء الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية، وتنمية الاقتصاد والمجتمع بشكل مستدام. وتضمنت العديد من المراحل والاستراتيجيات المهمة، منها المصالحة الوطنية وإصلاح المؤسسات الحكومية والتركيز على التعليم والصحة والتنمية الاقتصادية.
واعتبر الباحث سنان حتاحت أن النموذج الرواندي هو أكثر ملاءمة لسوريا في الوقت الحالي، فقد اعتمد على فكرة حكومة مركزية حاربت الفساد واستمرت 15 عاماً، نتج عن ذلك وجود إدارة وحوكمة رشيدة في القطاعات الاقتصادية، والاستثمار في قطاعات حيوية مثل القطاع المالي والاتصالات، مما حفز الاستثمارات الخارجية في القطاع الخاص، وأدى هذا إلى نمو سنوي ملحوظ في الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي.
من جانبه، يرى شعبو أن تطبيق النموذج الرواندي يبدو صعباً في السياق السوري بسبب تداخل المصالح الدولية والأطراف المتصارعة داخلياً. ولذلك، تحتاج سوريا إلى خطة إعمار شاملة تأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات.
وأكد شعبو أن سوريا تمتلك العديد من المقومات التي تؤهلها لإعادة الإعمار والنهوض بذاتها. فهي تتمتع بموارد طبيعية متعددة، بما في ذلك النفط والغاز والفوسفات، إلى جانب فائض في الإنتاج الغذائي والطاقة. كما أن لديها موارد سياحية وضريبية وجمركية كبيرة، فضلاً عن قدرات صناعية تكفي لتلبية الاحتياجات الداخلية، ما يجعل سوريا حالة فريدة تختلف عن أوروبا واليابان أو حتى رواندا.
الذكاء الصناعي والبلوكشين
في ظل الجهود المبذولة لإعادة الإعمار في سوريا، ومع التطور السريع للتقنيات الحديثة مثل الذكاء الصناعي ونظم "البلوكشين"، تبرز الفرصة لتوظيف هذه الابتكارات في تسريع وتعزيز عملية إعادة البناء، مما يسهم في تحسين كفاءة توزيع الموارد، ومراقبة المشاريع، وضمان الشفافية في العمليات الإدارية والمالية.
في إجابة عن سؤال: كيف يمكن استثمار التكنولوجيا الحديثة في إعادة الإعمار؟، يجيب الباحث سنان حتاحت بأن للذكاء الصناعي استخدامات متعددة يمكن أن تسهم بشكل كبير في تحسين العديد من القطاعات.
أما بالنسبة لتقنية البلوكشين، فإن لها نوعين رئيسيين من التطبيقات: الأول يتعلق بالعملات الرقمية (Cryptocurrency) وإنشاء نظام مالي جديد يعتمد عليها.
وبحسب الباحث، فإن هناك إمكانية لتطبيق هذه التقنية على مستويين: الأول حكومي لإنشاء أنظمة مالية رسمية حديثة، والثاني خاص لدعم القطاع الخاص، مشيراً إلى أن تجربة السلفادور في اعتماد العملات الرقمية كمثال تُعد تجربة جديدة تستحق الدراسة والتمعن.
أما النوع الثاني، فهناك تطبيقات أخرى لتقنية البلوكشين تتعلق بمجال التوثيق، حيث تمتلك هذه التقنية إمكانات واسعة في قطاعات مثل الإنشاءات والإسكان والتوثيق القانوني (الطابو)، والهويات وكتابة العقود الرقمية. يمكن الاعتماد عليها، مما يوفر حلولاً أكثر كفاءة.
في حين اعتبر الباحث فراس شعبو أنه يمكن الاستفادة من تقنية البلوكشين لضمان شفافية توزيع الأموال ومراقبة حركة الأموال وأوجه إنفاقها، مما يساعد على منع الفساد وتحسين إدارة الموارد بأقل كلفة ممكنة. كما يمكن إنشاء سلاسل توريد واضحة وشفافة تُسهّل تتبع المشاريع وضمان سيرها بشكل سليم.
كما أن تطبيقات الذكاء الصناعي يمكن استخدامها لمراقبة العمليات، وتحسين جودة الأداء، وتقليل المخاطر، وحتى التنبؤ بالمخاطر المستقبلية بشكل كبير، مما يسهم في تحسين إدارة مشاريع إعادة الإعمار. لكن لتحقيق ذلك، يلزم وجود بنية تحتية تقنية قوية تدعم هذا التحول الرقمي، بحسب شعبو.