إسرائيل والنظام السوري: بين إسقاطه والإبقاء عليه

2021.03.29 | 06:45 دمشق

earhc.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الثورة السورية، بدأت تصدر تقييمات إسرائيلية حول ما باتت تسميها "الفرص الضائعة" التي بددتها إسرائيل، سواء إمكانية الإطاحة بالأسد عبر إجراء اتصالات مع عناصر محلية، أو تنفيذ نشاطات هجومية من أجل منع الوجود العسكري الإيراني، أو المحافظة على النظام قائما، لكنه مستنزفاً منهكاً، ورغم أن الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه سوريا كانت واضحة، لكنها فشلت في تحقيق كل أهدافها التي رسمت.

صدرت في الآونة الأخيرة تباينات إسرائيلية لا تخطئها العين، حول عدم اتخاذ إجراءات للإطاحة بالأسد ونظامه، حين كان ذلك ممكنا، لأنه في السنوات الخمس الأولى من الثورة، كان يمكن التسبب في فقدان النظام السوري بقيادة الأسد لزمام السلطة، وبتر ذراع مركزي وخط أنابيب الأكسجين التشغيلي واللوجستي للوجود الإيراني وأتباعه.

وربما لو قررت إسرائيل مساعدة المعارضة السورية، وعملت معها في قنوات سرية، قبل التدخل الروسي في سوريا، لكان سقوط نظام الأسد في دمشق متاحا، وربما كان وضع إسرائيل الأمني في الساحة الشمالية الشرقية للبنان وسوريا أمام المحور الإيراني أفضل بكثير مما هو عليه اليوم، لأن سوريا اليوم باتت وحدة عسكرية وصناعية وعلمية ولوجستية مهمة جداً في مجموعة القوات الموالية لإيران.

المروجون الإسرائيليون لمدرسة الإطاحة بالأسد، يعتقدون أنه كان سينشأ نظام سوري جديد مدعوم من الولايات المتحدة والدول العربية "المعتدلة"، وحينها يمكن توقيع اتفاق سلام معه دون التنازل عن الجولان، مع وجود محاولات إسرائيلية لإقناع المستوى السياسي الإسرائيلي بالتدخل في الوقت الفعلي، خاصة في المرحلة الأولى من الثورة، لاسيما وأن هيئة أركان الجيش الإسرائيلي توفر لديها تيارا كبيرًا من كبار المسؤولين المؤيدين لمبادرة الإطاحة بالأسد ونظامه.

تجربة إسرائيل السيئة في حرب لبنان الأولى 1982 لعبت دورًا رادعًا عن التفكير بتثبيت "بشير جميل" جديد في سوريا

في المقابل، نشأ هناك تيار إسرائيلي كبير، عارض خطوة الإطاحة بالأسد، وحججهم في ذلك أن أي تحرك إسرائيلي مباشر بهذا الاتجاه، أو تقديم مساعدات ضخمة لمعارضيه لتحقيق هذا الهدف، بدت مقنعة، لأن أي إسرائيلي لا يضمن أن تحالف المنظمات والكيانات السياسية التي ستصل السلطة بدلاً من الأسد ستكون أقل عداءً وخطورةً لإسرائيل من إيران، على العكس من ذلك، فإن البديل الجهادي الذي ظهر في سوريا في ذلك الوقت ليس أقل تهديدًا من إيران.

اللافت أن تجربة إسرائيل السيئة في حرب لبنان الأولى 1982 لعبت دورًا رادعًا عن التفكير بتثبيت "بشير جميل" جديد في سوريا، كما فعل ذلك أريئيل شارون في حينه، حين خطط لتنصيب حلفائه المسيحيين على بلاد الأرز، ثم يوقع اتفاقية سلام معهم، لكن السوريين أحبطوا هذه الخطوة الاستراتيجية بقتل الجميل.

بالعودة إلى عامي 2012-2013، تبدي المحافل الإسرائيلية اعتقادها أنه عندما كانت الانتفاضة في سوريا في مهدها، بدت نافذة الفرص الإسرائيلية للإطاحة بالنظام في دمشق مفتوحة على مصراعيها، لكن حتى في ذلك الوقت، امتلأت الساحة السورية بعشرات التنظيمات المسلحة، يعمل بعضها فقط بالتعاون مع الجيش السوري الحر، وسرعان ما تولى الجهاديون زمام الأمور، ودفعوا جانباً بذلك الجيش "المعتدل"، وأخذوا زمام المبادرة في الميدان.

وهكذا فإن الرؤية الإسرائيلية تجاه الوضع السوري تمثل بانقسام وعدم وجود قيادة واضحة بين الثوار، وهو أمر لم يعد إلا بشيء واحد في حال سقوط النظام، وتتمثل بالفوضى المزمنة، وانعدام الحكم الذي سيستمر لسنوات حتى بعد انحسار الثورة، والثأر بين الثوار أنفسهم، ومع مؤيدي النظام، وكان يمكن أن يتضاءل خطر التهديد الإيراني، لكن هذا الوضع يجذب عناصر قاتلة تزدهر في ظل ظروف انعدام الحكم.

يتحدث المسوقون الإسرائيليون لنظرية الإبقاء على الأسد عن فرضية مفادها أن الخطر الذي تمثله منظمات الجهاد العالمي والإخوان المسلمون على إسرائيل لا يقل خطورة، وربما أكثر من ذلك، عن المعسكر الإيراني، ولكن مع ظهور داعش في 2014، ووصولها لذروة قوتها، ثم وصول الروس في 2015، أُغلقت نافذة الفرصة الإسرائيلية لإسقاط النظام السوري، واستبداله بآخر ودي، مع وجود أوساط في الساحة الدولية، أبلغوا إسرائيل بأنها لا تستطيع أن تنحي النظام السوري في الشمال.

هناك العديد من العوامل الدولية والإقليمية التي منعت إسرائيل من الإطاحة بالنظام السوري، فإيران وروسيا والصين ساعدته، وتركيا والسعودية وقطر والإمارات والأردن، ساندت مجموعات مسلحة مختلفة، وهذه العوامل لم تسمح لإسرائيل بأن تصوغ الوضع في سوريا كما ترغب، بالتزامن مع فشل إدارة أوباما مرتين في سوريا بطريقة مهينة.

هناك حجة إسرائيلية أخرى ظهرت دائمًا في النقاشات حول إجراءات الإطاحة بنظام الأسد، وهي أنه من الأفضل لإسرائيل أن تكون لها سيطرة على الأسد الضعيف في دمشق، أفضل من أن يأتي طرف أو ائتلاف آخر مكونا عناصر غير متوقعة.

مع العلم أنه بعد مرور عقد كامل على عشر سنوات من الثورة السورية، يعتقد الإسرائيليون أن سوريا التي كانوا نعرفها، لم تعد موجودة، والعدو اللدود لإسرائيل لم يعد موجودًا، رغم أن حكم الأسد المستعاد، بدعم من روسيا وإيران، يطرح تحديات جديدة على إسرائيل، التي اجتازت نهاية لجارتها الشمالية، وولادة جديدة لها.

ورغم أن الحرب السورية وكأنها تتلاشى، إلا أن التهديدات لا تزال تحوم فوق إسرائيل، حتى مع تركيز الاهتمام على الوجهة التي تتجه إليها سوريا والمنطقة ككل، ومع ذلك فإن القراءة الإسرائيلية لسوريا أنها تغيرت إلى درجة لا يمكن إدراكها، سوريا التي عرفتها إسرائيل خلال الثلاثين عامًا الماضية، لم تعد موجودة اليوم.

منذ قيام إسرائيل، كانت سوريا من أخطر التهديدات التي تواجهها، لأنها لعبت دورًا رئيسيًا بمعظم الحروب الكبرى، واستمرت بمحاربتها حتى بعد أن أدرك الأردن ومصر أنهما لا يمكنهما هزيمة إسرائيل عسكريًا، وحتى 2011، بقيت سوريا تمثل تهديدًا تقليديًا رئيسيًا لإسرائيل، والعدو الذي شكل الجيش الإسرائيلي جزءًا كبيرًا من قوته ضده، وكان لديها القدرة على حل التحديات الأمنية لإسرائيل، في أذهان صناع قرارها.

بالنسبة للأسد، قدرت إسرائيل أنه من الأفضل البقاء مع "الشيطان" الذي تعرفه

لكن السياسة التي تبنتها إسرائيل تجاه الثورة السورية، وأعلنتها حكومة نتنياهو تركتها على شفا الصراع السوري، مع عدة استثناءات، بينها الرد على أي إطلاق نار أو قصف تجاهها، وتنفيذ هجمات مضادة لمنع نقل أنظمة أسلحة متطورة لحزب الله، أو أسلحة دمار شامل كيماوية أو بيولوجية في أيدي المسلحين.

بالنسبة للأسد، قدرت إسرائيل أنه من الأفضل البقاء مع "الشيطان" الذي تعرفه، وهي عبارة استخدمها أريئيل شارون عام 2005، لإقناع جورج بوش الابن بعدم الدفع باتجاه تغيير النظام في سوريا، لأن الحدود السورية هي الأهدأ مع إسرائيل منذ 1973، وإن سقط النظام فسيحل محله جهاديون سنة سيكونون أكثر عدوانية.

لا تزال إسرائيل تتعامل مع صدمة احتلال لبنان، وأدت محاولاتها للتدخل في السياسة الداخلية لدولة عربية إلى هزيمة استمرت بناء عليها 18 عامًا في المستنقع، وأودت بحياة مئات من جنود الجيش الإسرائيلي، لكن إسرائيل بدأت في السنوات الأخيرة تدرك أنه لم يكن من الدقة افتراض أن الأسد خيار أفضل بالنسبة لنا، لأنه من وجهة نظر استراتيجية، تدرك إسرائيل اليوم أن الأسد مكّن إيران في سوريا، ولن يفعل شيئًا لطردها.

ورغم أن إسرائيل هاجمت أهدافًا في سوريا طوال الحرب، بما فيها قافلة قرب القنيطرة في يناير 2015، وقُتل فيها جنرال إيراني وقادة كبار بحزب الله، فقد كثفت منذ 2016-2021 عملياتها ضد القواعد الإيرانية في سوريا، وجاءت هذه الهجمات جزءًا مما يسمى "المعركة بين الحروب" الإسرائيلية، وهي استراتيجية تهدف لتقويض جهود إيران لتوفير أسلحة دقيقة لمبعوثيها على حدود إسرائيل، دون دخول حرب علنية.

المعلومات المتوفرة لدى إسرائيل تؤكد أن العلاقات بين روسيا وإيران، رغم أنها مفيدة لإنقاذ الأسد، فإنها توترت بمرور الوقت، وتشعر موسكو بعدم ارتياح متزايد في مواجهة جهود إيران لإنشاء قاعدة عسكرية في سوريا، ما يقوض مساعي روسيا لإرساء الاستقرار في سوريا، وأثارت رداً إسرائيلياً، ولذلك تسامحت روسيا مع الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد بناء البنية التحتية العسكرية الإيرانية في سوريا.

لا شك أن إسرائيل لاعب في سوريا، ولكن ليس إلى الحد الذي وصلت إليه روسيا الولايات المتحدة التي يسمح لها بحرية العمل، فقد نجح بنيامين نتنياهو بتوجيه الحرب بالبقاء إلى جانب الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه وجد قاسمًا مشتركًا للحفاظ على علاقات العمل مع روسيا، رغم فترات التوتر العديدة، لكن هذه التحديات ستزداد فقط مع نمو سوريا الجديدة، بما في ذلك الجيش المعاد تأهيله من روسيا وإيران.

الخلاصة أن الأسد، الذي رجح كفة بقائه على إسقاطه لدى دوائر صنع القرار الإسرائيلي، ليس معنيا حالياً بمواجهة مباشرة مع إسرائيل، لكنها تجد نفسها مضطرة بأن تضمن الحفاظ على الحرية العسكرية والعمل لمنع الوجود الإيراني هناك، واستمرار نقل الأسلحة، وتبقى ميزتها الوحيدة استمرار علاقاتها وتنسيقها مع الولايات المتحدة وروسيا، ما يتطلب منها الاعتراف بقدرتها المحدودة على تشكيل الوضع السياسي في سوريا.