إسرائيل.. ماذا بقي يُوحّدها؟

2023.03.14 | 05:53 دمشق

مظاهرة نتنياهو
+A
حجم الخط
-A

تعيش دولة الاحتلال، في الآونة الأخيرة، نذُر انقسام، على خلفيَّة سعْي حكومة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والمتحالفين معه من الأحزاب الدينية اليمينية، إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا؛ بدعوى تدخُّلها في السياسة، ما دفع رئيس الدولة، إسحاق هرتسوغ إلى إعلاء الصوت بالخطر المحدق، إذ قال محاولًا التوسُّط بين الطرفين: "هذا خطأ، إنه قاس، إنه يقوِّض أسسنا الديمقراطية، وبالتالي يجب استبداله بمخطَّط آخر متَّفق عليه على الفور"، وحذَّر في خطاب مرئي، من أن إسرائيل وصلت إلى "نقطة اللاعودة".

والجدل دستوري سياسي اجتماعي، ليبرالي/ ديني. وإذا نجح التغيير فإنه يحرِّر الحكومة من الاحتياج إلى المحكمة العليا، في شرعنة بُؤَر استيطانية لا تمتثل للشروط، وكذلك في ضبط نشاطات جيش الاحتلال، وتالياً توفير الغطاء القانوني لهم، بخلاف فقدانهم هذا الغطاء؛ ما يعرّضهم، على نحو أخطر للمطالبات القضائية الدولية.

ذلك وفق ما أشارت له رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، بأن الجهاز القضائي الإسرائيلي في صورته الحالية، هو "قبة حديدية"؛ تحمي جنود وضباط الجيش. أمّا رئيس أركان الجيش الأسبق، الجنرال غابي أشكنازي، فقد حذَّر من أن غياب الحصانة للجنود ستضعف دافعية الخدمة في الجيش الإسرائيلي.

واعتبر أن زوال هذه الحصانة والمناعة، ستعني أيضاً مصدر تهديد للشبَّان من الخدمة في سلاح الجو، أو المدفعية، أو الوحدات الهجومية؛ كي لا يجدوا أنفسهم معرَّضين للاعتقال والمحاكمة خارج إسرائيل، وأمام المحكمة الجنائية الدولية.

لهذا الانقسام انعكاسات اقتصادية مهمة، من حيث تراجع الثقة بإسرائيل، وانسحاب شركات الهايتك "التكنولوجيا الفائقة"، التي تُعَدُّ  أحد أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي. وحتى اليوم، انسحبت ثلاث شركات تكنولوجيا؛ رفضاً لقانون "إصلاح القضاء"..

كما أنّ لهذا الانقسام انعكاسات اقتصادية مهمة، من حيث تراجع الثقة بإسرائيل، وانسحاب شركات الهايتك "التكنولوجيا الفائقة"، التي تُعَدُّ  أحد أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي. وحتى اليوم، انسحبت ثلاث شركات تكنولوجيا؛ رفضاً لقانون "إصلاح القضاء".

وحذّرت وكالة "موديز"، إحدى أهم وكالات التصنيف الائتماني في العالم، من الأضرار التي قد تُلحقها خطة حكومة نتنياهو لإضعاف جهاز القضاء، بالاقتصاد الإسرائيلي.

وجاء في بيان الوكالة أن "الإصلاحات المقترحة قد تُضعِف المؤسسات، ويكون لها تأثير سلبيٌّ على التصنيف الائتماني لإسرائيل". مضيفاً أنه "على المدى الطويل، قد تضرُّ التغييرات القضائية بإمكانيات النمو القوية لإسرائيل، وتزيد من المخاطر الجيوسياسية".

ذلك أن التنازع قائم على الوجهة التي تذهب إليها إسرائيل، هل إلى استبقاء المؤسساتية، أم إلى تغليب حكم الفرد، وحول الطابع الذي سيغلب على الدولة؛ هل هو الطابع الديمقراطي، وسيادة القانون، وخضوع السلطة التنفيذية إلى السلطة القضائية، أم إلى دولة أقل ديمقراطية، وأقرب إلى الاستبدادية؛ إذ تصف المعارضة تلك التعديلات المزمعة بأنها "انقلابٌ على الديمقراطية، سيؤدّي لسيطرة السلطة التنفيذية على القضائية؛ بحُكْم الأغلبية البرلمانية".

وعلامةً على خطورة التداعيات، على الأمن القومي لدولة الاحتلال؛ بدأ جنود الاحتياط - العمود الفقري للجيش الإسرائيلي - بالتهديد بالتوقُّف عن العمل كوسيلة لإظهار معارضتهم. وفي خطوة غير مسبوقة، تعهّد طيارو سِرْب النُّخبة في سلاح الجو الإسرائيلي، بعدم حضور التدريبات، قبل عدولهم عن قرارهم لإجراء محادثات مع قادتهم.

ومع أن نتنياهو الذي يبدو مصمماً على المضي نحو هذا الهدف، ليس بريئاً من دوافع شخصية، تتمثَّل في تخليص نفسه من الإدانة، بتُهَم الفساد الموجَّهة له، أو بالحكم بعدم أهليته للحكم، إلا أنَّ لهذا الصراع الذي يؤجِّج غضب شرائح واسعة؛ عبر مسيرات حاشدة، في تل أبيب وغيرها، أبعادًا أرحب وأعمق.

ولعل انطواء إسرائيل على فجوات في مواد دستورية تتضمَّن البتَّ فيما يجوز للكنسيت/ البرلمان، وما يعلو على صلاحياته؛ مما يسمح بحدوث هذا النزاع؛ إذ كيف يحقُّ لأعضاء الحكومة، بأغلبية بسيطة، في الكنيست اجتراحُ مثل هذا التغيير في شكل الدولة، والبتّ في صلاحية السلطات، وتحديدًا السلطة القضائية، أمام السلطة التشريعية؟

والجدير بالانتباه أنه ليس لإسرائيل دستور رسمي مكتوب، وإنما سنّت عدّة قوانين، وُصِفت بأنها أساسية، فـَـ"وَفْقًا لإعلان الاستقلال في 14 مايو 1948، كان يجب على الجمعية التأسيسية إعداد دستور، بحلول 1 أكتوبر 1948، لكنهم انتهوا إلى القرار النهائي في 13 يونيو 1950: بتشريع دستورٍ؛ فصلًا تلو الآخر، بشكل أساسي، وذلك لانتفاء قدرة المجموعات المختلفة في المجتمع الإسرائيلي على الاتفاق على هدف الدولة، وهُويَّتها، ورؤيتها على المدى الطويل، ولأن إسرائيل دولة غير مكتملة؛ أو ناجزة. إلى جانب معارضة ديفيد بن غوريون نفسه وضع دستور.

هذا مع إقرار إسرائيل مبدأ فصل السلطات، كما نجده في موقع الكنيست: "فصل سلطات الحكم هو مبدأ سلطوي؛ يقضي بمنح صلاحيات الحكم لسلطات منفصلة ومستقلة؛ من أجل خلق توازن بينها، وتفادي تركيز قوة مبالغ فيها، بيد سلطة واحدة، وذلك بهدف الحفاظ على الديمقراطية، وحماية الحريات الفردية، والحريات العامة".

ولكن الغريب أن هذه (القوانين الأساسية) لم تحتوِ على بنود تحصين، ولم تُقَرّ بأغلبية خاصة، ولهذا يمكن، من حيث المبدأ، تغييرُها بأغلبية عاديَّة. ولا تشير هذه القوانين الأساسية أنه في حالة تعارض بينها وبين أيّ قانون عادي، فإن تعليمات القانون العادي تصبح لاغية. "دستوريًّا، يعني هذا أنه لا يوجد هناك أشياء مفروغ منها تقع خارج المساومة اليومية، إذ لا توجد قوانين للعبة غير خاضعة للتغيير"، كما جاء في كتاب "دليل إسرائيل العام 2011" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.

هذا الإخفاق في التوحُّد على دستور رسمي، يحيلنا إلى أزمة الهوية المشتركة، منذ حاولت الحركة الصهيونية بلورة هوية يهودية عالمية موحدة، لكنها أخفقت؛ لأن الصهيونية قائمة فعليّاً، على أسس استعمارية استيطانية، لا تختلف في جوهرها عن روح الإمبريالية الغربية..

وهذا الإخفاق في التوحُّد على دستور رسمي، يحيلنا إلى أزمة الهوية المشتركة، منذ حاولت الحركة الصهيونية بلورة هوية يهودية عالمية موحدة، لكنها أخفقت؛ لأن الصهيونية قائمة فعليّاً على أسس استعمارية استيطانية، لا تختلف في جوهرها عن روح الإمبريالية الغربية.

"لقد فشلت حتى التوراة في التوحيد بين اليهود الأصوليين من كلتا الطائفتين؛ الإشكناز والسفارد، وجمعْهم في معبد واحد، وعلى صيغة صلاة واحدة. وقد جرت محاولات عديدة لتوحيد صيغ الصلوات، جوبهت جميعا بالرفض من جانب حاخامات السفارد"، وفق صحيفة هآرتس.

وما يزال يَحْرُم على السفاردي الأصولي والمحافظ دينيًّا، حتى الآن الزواج من إشكنازية، وكذلك العكس. كما لا يأكل اليهود الأصوليون من السفارد والإشكناز من اللحم الذي ذبح على يد حاخام من الطائفة الأخرى.

وتردّ صحيفة هآرتس هذه الخلافات بين السفارد والإشكناز إلى خلفيتهما التاريخية الذي يعني، في واقع الأمر، أن لكلِّ فريقٍ منهم هوية دينية مختلفة عن هُويَّة الآخر، وأنه يرى ضرورة الحفاظ عليها. كما تذهب هآرتس إلى تفسير الصراع السفاردي الإشكنازي على أساس أن السفارد يرفضون ما يصفونه بهيمنة الشريعة الإشكنازية على إسرائيل... فالخلاف بين الطائفتين في تصوُّر الجريدة ليس مسألة خلاف حول العادات والتقاليد والطباع فقط، وإنما هو خلاف حول الشرائع والأحكام".

ويتفق على ذلك مفكرون يهود، كالمؤلف الإنجليزي اليهودي، آرثر كوستلر  وكذلك "المؤرِّخون الجدُد" أنه "لا توجد ثقافة يهودية مستقلَّة تعبِّر عن وجدان مكونات الجماعات اليهودية، وإنما توجد ثقافات يهودية مختلفة باختلاف التشكيل الحضاري الذي وجد أعضاء الجماعات اليهودية داخله".

والانقسام اليوم، لم يكن له أن يكون بهذا العمق، لو تحقَّقت وحدة فكرية وثقافية ودينية لدى اليهود الصهاينة، إذ يسعى اليمين المتطرف في دولة الاحتلال، وعلى رأسه نتنياهو، إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا. انحياز الحكومة ومن يدعمها إلى مكوّن فكري لا يتفق عليه الجميع، وحينها فالدولة لا تمثِّل الجميع.

والمفارقة الدالَّة على قوَّة عوامل الانقسام أن فاعليتها تقوى على عوامل التوحُّد والمتمثلة، أقلّهُ، في استشعار الأخطار القومية والأمنية الماثلة التي تهدِّد، على الصعيد الخارجي، كما يدأب نتنياهو وغيره على التحذير من خطر إيران، والداخلي، كما في الصراع الذي احتدم مع الفلسطينيين، والذي طالما كان قادراً على تهميش الخلافات والتبايُنات في صفوف المكوِّنات اليهودية الإسرائيلية، في تجاهُل، حتى الآن، لنتائج استطلاعات الرأي التي أظهرت أن معظم الإسرائيليين يريدون وضْعَ المقترحات على الرفِّ، أو تعديلها.