مع اقتراب انتهاء العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، ومضي نحو تسع سنوات على الثورة السورية، المطالبة بالحرية وبناء دولة ديمقراطية، وما حملته هذه السنوات من تحولات دراماتيكية وتطورات الأحداث التي حولت سوريا إلى ساحة حرب وصراع داخلية وإقليمية ودولية، انخرطت فيها أطراف متعددة ذوات أهداف وأجندات متباينة ومتشابكة، أثرت فيها وتأثرت إلى درجة تحولت فيها الأرض السورية إلى نقطة ارتكاز لرسم واقع جيوسياسي جديد لدول الإقليم والقوى الدولية.
التأثير في الملف السوري والتأثر به لم يسلم منه المحيط الإقليمي عموماً، إلا أن إسرائيل هي الوحيدة تقريباً، بقيت بعيدة عن التأثر المباشر من تداعيات الزعزعة الأمنية التي اكتسحت المنطقة خلال العقد الحالي، وكأنها تعيش في جزيرة معزولة يفصلها مياه عن محيطها.
نحاول في هذه المادة الصحفية تتبع سياسة إسرائيل في التعامل مع الحدث السوري، وما هي طبيعة هذه السياسة وما طرأ عليها من تغييرات، ومحاربتها للوجود الإيراني في سوريا، مع استعراض لأهم الضربات الجوية التي تنفذها إسرائيل داخل الأراضي السورية، وتسليط الضوء على التغييرات الجيوسياسية التي شاركت إسرائيل في تشكليها انطلاقاً من الحدث السوري، وكيف يصور الإعلام العبري ما يحدث.. للوقوف على تفاصيل مدى التأثير الإسرائيلي على الملف السوري؟
النأي بالنفس
اعتمدت تل أبيب منذ البداية سياسة النأي بالنفس عن الحرب السورية، ولكن الأمر لم يخل من بعض الهوامش التي اختارتها إسرائيل بنفسها للعب دور يتوافق مع مصالحها في الحفاظ على "أمنها القومي"، وتمثلت في جوهرها بمحاربة إيران على الأرض السورية، من دون الانخراط في أي نشاط سياسي أو عسكري فيما يخص الصراع السوري وثنائية النظام من جهة، والشعب الثائر ومن ثم لاحقاً المعارضة من جهة أخرى، على عكس معظم دول الإقليم والقوى الكبرى.
مع ذلك، لا يصح القول بأن إسرائيل كانت بموضع المتفرج، وإن لم تنخرط بشكل مباشر، فالجبهة الشمالية تمثل أهم مرتكزات الأمن القومي لتل أبيب، إضافة إلى تلازم المسارين الأميركي والإسرائيلي وأهمية أمن إسرائيل في السياسة الخارجية الأميركية، أمر يجعل إسرائيل في قلب الحدث السوري.
اختارت إسرائيل النأي بالنفس على الرغم من أنها كانت أمام فرصة للتخلص من بشار الأسد، باعتباره "نظام ممانعة"، واستغلال الاضطرابات في الشوارع السورية لتحقيق ذلك، لكنها فضلت عدم الانخراط.
هذا ما يشير إلى أن إسرائيل كانت أمام لحظة الحقيقة مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي، ما بين منظر الشباب المتظاهرين في شوارع دول عربية محيطة بها وقريبة منها ومعادية لها يطالبون بالحرية والخلاص من الاستبداد؛ ولكنه واقع جديد غير معروف النتائج يثير ريبتها - من جهة، وبين مساندة أنظمة عسكرية ترفع شعارات العداء لإسرائيل وتقمع شعوبها؛ إلا أنها أنظمة عرفت إسرائيل عبر عقود كيف تتعامل معها - من جهة أخرى.
ويقول أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة تل أبيب البروفيسور إيتمار رابينوفيتش، في دراسة نشرها معهد الأمن القومي الإسرائيلي، عندما اتضح حجم الانتفاضة ضد نظام الأسد، في ربيع عام 2011، كانت إسرائيل أمام خيارين رئيسيين: الأول هو التدخل في الانتفاضة من خلال مساعدة المعارضة المعتدلة وتقديم المساعدات الإنسانية للسكان. والثاني هو التنحي جانباً والتأكد من حماية مصالح إسرائيل الحيوية. ويضيف الباحث الإسرائيلي، "كان إغراء مساعدة المعارضة والإطاحة بنظام الأسد كبيراً".
مع مرور الوقت، أصبحت المعالجة السياسة للثورة السورية أكثر تعقيداً، بعد عسكرتها وتصدر العناصر الإسلامية للمشهد، ما دفع نحو زيادة تدويل ما يحدث في سوريا، وبات يشار إليها بـ "الأزمة السورية"، وانخراط قوى إقليمية ودولية وتنظيمات عسكرية، متعددة ومتباينة الأهداف والأجندات بالأزمة.
في هذه المرحلة نشأ تلازم المسارين الإسرائيلي والأميركي حيال إيران وتدخلها العسكري العميق في الأراضي السورية، ليس بسبب وقوف الأخيرة لجانب نظام الأسد في قمع الثوار، وإنما لمنعها من التأسيس لموطئ قدم على حدود إسرائيل الشمالية، أي أن الموضوع مرتبط بالأمن القومي الإسرائيلي.
فيما عدا محاربة الوجود الإيراني في سوريا، لم تنخرط إسرائيل سياساً في الملف السوري ولم تشارك في المسارات السياسية الدولية، التي رسمت ملامح الأزمة السورية، كمؤتمرات جنيف وأستانا وسوتشي وغيرها، كما لم تمر عليها أزمة اللاجئين التي أغرقت دول الجوار وأوروبا بأعباء اقتصادية واجتماعية وأمنية، باستثناء استضافة بعض الجرحى وتقديم بعض المساعدات الإنسانية لسكان الجنوب، بشكل محدود جداً، وذلك بهدف الاستغلال الإعلامي لتبيض صورتها إنسانياً، وإتاحة الفرصة لنتنياهو لالتقاط الصور مع الجرحى ومادة إعلانية لأفيخاي أدرعي الإسرائيلي النشط على مواقع التواصل الاجتماعي.
أما على الصعيد العسكري، فقد تجنبت تل أبيب الانخراط في الاقتتال بسوريا، وحتى الضربات الجوية التي تنفذها داخل الأراضي السورية، والتي ازدادت وتيرة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، هدفها ضرب الوجود الإيراني، وإن طالت هذه الضربات أهداف لقوات الأسد، لم يكن الهدف منها إضعاف الأسد لصالح المعارضة، وإنما رسائل تدعوه للتخلي عن طهران.
خطوط إسرائيل الحمراء
توضيحاً لما سبق، فضلت إسرائيل تجنب التورط المباشر في القتال في سوريا، ولكنها رسمت خطوطاً حمراء، منذ البداية وهي ثلاثة، حددت فيها الشروط والمواقف التي ستضطرها للتدخل في حال حدوث:
أولاً - إطلاق النار أو ضرب إسرائيل ومرتفعات الجولان من داخل الأراضي السورية.
الثاني - منع نقل أنظمة الأسلحة المتطورة إلى حزب الله اللبناني.
والثالث - منع سقوط أسلحة الدمار الشامل (كيماوية أو بيولوجية) في أيدي "الإرهابيين".
ومع تعرجات مسار الحدث السوري وما لحقه من تعقيدات وتطورات في السنوات اللاحقة، بما في ذلك صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" والتهديد المتوقع منه، والدخول المكثف لإيران وحزب الله في القتال والتدخل العسكري الروسي في عام 2015.
بدأت إسرائيل بزيادة نشاطها وتحركاتها لمنع إيران والميليشيات الموالية لها من الاقتراب من حددوها، عبر زيادة ضرباتها الجوية لأهداف إيرانية في سوريا، كما طورت آلية "منع التصادم" مع الروس في الأجواء السورية، إضافة إلى محاولات استمالة المنطقة الجنوبية السورية عسكرياً وإغاثياً لمنع الاقتراب الإيراني من حدودها.
ضرب سلاح الجو فجر اليوم أهدافا مهمة تابعة لفيلق القدس الإيراني في سوريا وضرب أيضا أهدافا تابعة للجيش السوري.
— بنيامين نتنياهو (@Israelipm_ar) November 18, 2020
هذه هي السياسة الواضحة التي أقودها منذ سنوات. لن نسمح بتموضع عسكري إيراني ضدنا في سوريا ولن نسمح بأي محاولة للاعتداء علينا من الأراضي السورية...
وباتت استراتيجية تل أبيب الأهم في سوريا هي منع التموضع الإيراني، وتمثل إسرائيل رأس الحربة في محاربة إيران سياسياً وعسكرياً عبر تشكيل محور إقليمي ودولي، بدأت ملامحه بالظهور في الآونة الأخيرة.
محاربة الوجود الإيراني
بعد انتصار الأسد النسبي على المعارضة بمساعدة روسيا وإيران في كانون الأول/ ديسمبر 2016 (نهاية معركة حلب)، وجهود النظام لاستعادة قبضته على جميع الأراضي السورية، واجهت إسرائيل واقعاً جديداً يتمثل بوجود الجيش السوري وحزب الله وميليشيات شيعية أخرى موالية لإيران بالقرب من حدودها.
إسرائيل أبدت استعدادها وموافقتها، بعد التدخل العسكري لروسيا الذي قلب الكفة لصالح النظام (تشرين الأول/ أكتوبر 2015)، لعودة الوجود العسكري للنظام في منطقة الجولان والعودة إلى العلاقات معه وفقاً لما هو محدد في اتفاقيات "فض الاشتباك" الموقعة في 1974، ولكن ليس لوجود القوات الإيرانية أو حزب الله أو الميليشيات الشيعية بالقرب من الحدود.
جدير بالذكر أن الزخم الروسي في سوريا دفع واشنطن إلى دور ثانوي، وإنعاش دور إيران، يضاف إليه خيبة أمل إسرائيلية من إدارة أوباما التي أبرمت الاتفاق النووي مع طهران، وكانت خيبة أمل لدول الخليج أيضاً.
وسط هذه الأجواء، بدأت طهران وموسكو الحليفتان الرئيسيتان للأسد بالتأسيس لوضع دائم في سوريا، من خلال إنشاء قواعد عسكرية دائمة والاستحواذ على مقدرات الشعب السوري عبر استثمارات طويلة الأجل.
تعاظم الدور الإيراني شكّل مصدر قلق كبير لتل أبيب، فقد ازدادت شهية الإيرانيين للتمدد في سوريا، عسكرياً وسياسياً وثقافياً، وباتوا يعتبرونها المحافظة الـ 35 لإيران، لرسم طريق بري يربط طهران بالبحر المتوسط، وهو بمنزلة طريق إمداد يصل إلى جنوب لبنان معقل حزب الله اللبناني.
تخشى تل أبيب من أن تأسس الميليشيات الموالية لإيران لفتح جبهة شمالية أخرى ضد إسرائيل، ومن محاولات الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس ربط الجنوب السوري مع الجنوب اللبناني، وإنشاء بنية تحتية استراتيجية موازية لتلك التي بنتها إيران في لبنان.
وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن الجهود الإيرانية، في الثلاثة سنوات الأخيرة، اتجهت لوضع صواريخ دقيقة التوجيه في سوريا تصل إلى أهداف استراتيجية في عمق إسرائيل، ما دعا تل أبيب لوضع بنك أهداف واسع الانتشار داخل الأراضي السورية لضرب القواعد الإيرانية.