إسرائيل.. حارة يهود في المنطقة العربية

2021.05.13 | 06:54 دمشق

فلسطين
+A
حجم الخط
-A

يسبقنا الحدث الفلسطيني، نلهث وراءه من كل اتجاه، نحاول أن نفهمه ونرسم خطوطه العريضة، نطرح الأسئلة، وحدها الأسئلة واضحة والإجابات عمياء، ماذا سيحدث وكيف ستكون المآلات؟

ثلاثة وسبعون عاماً من عمر النكبة الفلسطينية تم خلالها صناعة الأكاذيب التي عملت أجيالنا المتلاحقة على ترويجها وإعادة إنتاجها، وليس أمامنا الآن سوى العمل على عودة الأمور إلى المربع الأول.

فلسطين بلدٌ محتل من حدود سايكس بيكو مع سوريا ولبنان وحتى صحراء سيناء، بلدٌ موحَّدٌ بالكامل رغم كل التقسيمات، لقد أغرقتنا الصهيونية بغطاءٍ إسرائيلي بالتفاصيل، فما خلف الخط الأخضر أقلية عربية لها خصوصيتها الثقافية والإثنية ضمن بناء المجتمع الإسرائيلي الذي يحمل في تكوينه رفضاً قاطعاً لفكرة الانصهار، يمكن ملاحظة ذلك بتركيبة السكان الذين وصلوا إلى جيلهم الرابع الآن، يحملون هويات مركَّبة ليس بالأمر الهيِّن نفضُ كل الغبار الذي علِق بها لتنسجم مع محيطها.

وما أمام الخط الأخضر هو الضفة الغربية أو ما يعرف بأراضي السلطة الفلسطينية المقسّمة أصلاً إلى ثلاثِ مناطق أساسية " آ- ب- ج" الأولى تضم المدن الرئيسية الفلسطينية والأخيرة تتبع مباشرة للجيش الإسرائيلي الذي ينظِّم فيها تدريبات ومشاريع عسكرية ويمنع الفلسطيني من الإقامة والبناء والعمل فيها، وفي الجنوب الفلسطيني قطاع غزة الممتد شريطاً ساحلياً محاصراً على امتداد الأحلام، تمَّ خلال السنوات الماضية شيطنة الساكنين فيه، عن وعي أو غير وعي، شيطنة مدروسة مبنية على أساسٍ متكامل يهدف إلى ترسيخ التفرقة بين المناطق الثلاث التي سرقت إسرائيل الأولى منها وفرضت أمراً واقعاً في الثانية وتعاملت مع الثالثة باعتبارها مكاناً خارجاً عن القانون.

القدس بين كل هذه المناطق خرجت من عباءة المدينة العادية ولم تحصر نفسها بصورة المقدَّس، تطرحُ الأسئلة علينا ولا تنتظر الإجابات، يحاول الاحتلال فيها حصرها بصورة المدينة الباحثة عن عباءتها المسلمة، لا يحضر على بال الموجودين فيها رفع صليب كبير في باحات الأقصى كي تُستَفَزَّ أوروبا حاملةُ لواء حماية المسيحيين في كل مكان وزمان، يبقى المعتصمون وحدهم أمام آلة قوات الاحتلال الإسرائيلي في القدس الشرقية، هم في الصورة الكاملة ليسوا وحدهم، المسألة هنا لا تتعلق بحي الشيخ جراح، حيٌّ واحدٌ في بلد مسروق بالكامل فماذا يعني ضياعه سوى إضافة شارعين إضافيين إلى خريطة الفردوس المفقود؟. إنه يعني في أقل تقدير إعادة إنتاج النكبة الفلسطينية فالتطهير العرقي الذي قرأنا عنه في الكُتُب وشاهدناه في سوريا والعراق اليوم مثالاً واضحاً أمامنا لاتخطئه العين، يعود ليحدث من جديد.

لم يتشرَّب الناس فكرة السلام الذي عملت بعض الأنظمة على إرسائه باعتباره ركناً أساسياً للاستقرار في المنطقة، انتفضوا رغم يقينهم بأن الخروج يعني مواجهة العدم، وقفوا فوق الأسطح على امتداد رام الله نابلس سلفيت وقراها يرقبون مرور صواريخ المقاومة باتجاه إسرائيل، الإشارات هنا واضحة وليست بحاجة إلى كثير جهدٍ من التأويل، خرجت أصواتٌ تقول إنَّ الوبال قادمٌ بعد صواريخ "التنَك" التي اخترقت سماء فلسطين من أقصاها إلى فضاء تل أبيب، لا إشارات في التلقي إلى ذلك المقاتل الذي نصب الراجمة وأوقفها قبل أن يُطلِق الصاروخ، هل يمكن المفاوضة على صدق فِعلِه؟ لو افترضنا أساساً أنّ للقيادات ما لها من أسباب كما تروج الآراء الانهزامية التي تصفُ نفسها –دائماً- بالحكمة والاعتدال ورجاحة العقل وتتهم غيرها –دائماً- بالشعبوية والسطحية وقصر النظر!.

ذلك السوري الذي خسر كل شيء وفُتِحت أمامه أبواب القارة الأوروبية لم يفاوض على فكرة فلسطين

الحدث يجد صداه هنا في المدن العربية داخل الخط الأخضر أو ما يعرف بميثاق الأمم المتحدة "إسرائيل"، شبابٌ ولدوا وعاشوا وتعلموا ودرسوا وعملوا في دولة الاحتلال، يحملون في ذواتهم التمييز العنصري وتبعات "الأبارتهايد" الإسرائيلي، أحياءٌ بالكامل في اللد والمثلث ويافا وعكا غير معترف بها، قرى غير موجودة على الخريطة ولا تملك من أسباب البقاء شيئاً لكن أهلها صامدون لأجل صورة فلسطين فيهم.

شاهدت صوراً من المغرب وتونس وليبيا والأردن ومصر، لكن الأكثر إجلالاً تلك التي خرجت في مخيم للنازحين من أهلنا في محافظة إدلب شمال غربي سوريا، ذلك السوري الذي خسر كل شيء وفُتِحت أمامه أبواب القارة الأوروبية لم يفاوض على فكرة فلسطين.

في بلدان أخرى حيث تُبنى إسرائيل ثانية عبر عدة مستويات، لم يفاوض فيها العربيُّ على فلسطين، نحن هنا لسنا أمام غزة أو الضفة أو مناطق 48، وإنما أمام امتداد ثقافي واسع يحتضن فكرة فلسطين ويريدها كاملة، وله فيها دم وتاريخ وجدٌّ أو اثنان حاربا هناك. هل الشارع العربي منقسمٌ إزاءَ هذا؟. لقد أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي في دول التطبيع أبواقاً تشيطن الفلسطيني وتحيل هذا التصعيد إلى الاستفزاز الذي يقوم به مَن ضاعت بلاده، انعكس هذا في شاشات إعلام تلك الدول التي انشغلت عن الحدث الفلسطيني باستدعاء ذكريات وزير سابق في عهد صدَّام حسين، أو أهمية الحلويات في ليل الصائم نهاراً وفوائدها لجسم الإنسان، بينما حضر خطاب بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه بيني غانتس وغابت صورة إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، حيث تزامن بثُّ الخطابات عبر وكالات الأنباء بذات التوقيت.

ماذا بعد؟، كلما أوغلت إسرائيل في توحشٍ سافرٍ ضد العربي الفلسطيني اقتربت نهايتها، ومعادلة اللاحرب واللاسلم التي فرضت نفسها طوال العقود الماضية لم تعد تنفع الآن، سمعتُ مستوطناً يخاطب أهالي حي الشيخ جراح على مرأى ومسمع من قناصل الدول الأوروبية وأعضاء اليمين المتطرف في الكينيست الإسرائيلي، كان يقول للفلسطينيين: اذهبوا إلى سوريا، يعرف الإسرائيلي ويدرك أنَّ الفلسطيني ليس وحده في المعركة والمواجهة، في ظهره امتداد وإن شابَهُ التعب والمرض والإرهاق والتخلِّي خلال العقود الماضية لكنه موجودٌ كامنٌ قابلٌ للانفجار في كل لحظة. لهذا يجب ألا يتم حصر التصعيد بمسألة القدس وحي الشيخ جراح، إنها ملفات متشابكة لابد من ترتيب الأولويات فيها بدايتها تكون من إسقاط اتفاقية أوسلو التي تجاوزَتها إسرائيل أساساً ولم تفِ بالتزاماتها فيها خلال السنوات الماضية وأحالت ملحقاتها ومتنها إلى مفاوضات الحل النهائي الممتد منذ سنوات طويلة.

وكي لا تكون الكلمات شعارات محكومة بالسرد، فإنَّ القابض على جمر بقائه هناك التعامل مع صورة متكاملة منبعها الأول جندي محتل يحمل سلاحاً ويقف بين الفلسطيني وأرضه، وشموليَّتها مبنية على أساس العمق الواعي المدرك لتجربة ثلاثة وسبعين عاماً متكاملة من النكبة والهجرات والهويات المركبة التي لم تؤثر على انتماء العربي الفلسطيني ومكانة فلسطين في ذهنية العربي.

لكن فلسطين اليوم غير فلسطين تلك التي كانت مع بداية أربعينيات القرن الماضي، فلسطين اليوم فيها جيلٌ رابع أو خامس من الإسرائيليين الذين وُلِدوا وعاشوا فيها، يحملون ذاكرتها مثلنا تماماً وإن كانت زاوية النظر والرؤية مختلفة تماماً، لهذا على القادرين العمل بشكل واعٍ على تفكيك فكرة الصهيونية من العقول الإسرائيلية التي تحملها، لتعود إسرائيل إلى حقيقتها التاريخية وتكون فلسطين أو في تعبير أدق تتحول إسرائيل إلى حارة يهود في المنطقة العربية.