إسرائيل تعود إلى آسيا

2023.05.05 | 09:35 دمشق

إسرائيل تعود إلى أسيا
+A
حجم الخط
-A

"إن إسرائيل ترى في أذربيجان بوابة أساسية إلى آسيا الوسطى، وأذربيجان ترى في إسرائيل وسيلة لمساعدتها في التحول إلى مركز تجاري أساسي في المنطقة أو شيء ما يشبه دبي آسيا الوسطى"..

كان هذا تصريح وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين عقب زيارته المهمة إلى باكو عاصمة أذربيجان، بعد أن استقبله الرئيس إلهام علييف، حيث لا تبدو علاقات الدولة العبرية مع أذربيجان منقطعة ومتفاوتة، بل هي هي علاقات متينة تتعزز سنة بعد سنة.

فمنذ مئات السنين كانت أراضي شعب الأذر متاخمة لأمم كبرى طامعة على الدوام في ثرواتها ومكانتها الاستراتيجية، حتى تقاسمت روسيا القيصرية والدولة القاجارية أراضي أذربيجان الجغرافية، نتيجة للحرب الروسية الفارسية 1826 فتم ضم العاصمة السياسية باكو إلى تبعية الروس ومن ثم السوفييت، وضم الفرس أراضي أذربيجان وعاصمتهم التاريخية تبريز. وأطلقوا عليها تسمية أذربيجان إيران.

كان نهر أراس الذي يشكل الروح الحقيقية وشريان الحياة في القوقاز، هو العمود الفقري الذي بنت عليه الأمم القوقازية وجودها، من فرس وأذر وأرمن وكورج وأتراك.. ولكنه أصبح في بدايات القرن العشرين فاصلاً حدودياً وخطاً أحمر يفصل بين السياسات المتناقضة بين جمهورية أذربيجان السوفييتية وإيران وأرمينيا، حيث يشكل النهر الضخم الجميل حدوداً جغرافية. لطالما أثارت شعراء القوقاز في الحنين إلى جغرافيا قاسية وحنونة تضم شعوب المنطقة دون حروب، وكان آخر من ألقى جزءاً من هذه الأشعار هو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينما كان في زيارة للاحتفال بـ "انتصار" أذربيجان على أرمينيا في عام 2020، حيث ألقى خطبة نارية تضمنت أبياتاً شعرية للشاعر الأذري بختيار فاهابزاد.

"لقد فرقوا نهر أراس، وملؤوه بالرمال، لم أكن أريد فراقك، ففرقونا قسراً".

أذربيجان التي تتكون من شعب يحمل القومية التركية، ويعتنق المذهب الشيعي، تلعب دوراً أساسياً في التجاذبات بين إيران وتركيا، بسبب هويتها المزدوجة

حيث تبدو المشاعر القومية والتجاذبات الجغرافية والثقافية والدينية مشتعلة بشدة في تلك المنطقة مثلها مثل أي منطقة عبثت بها يد التقسيم والإمبراطوريات ضد إرادات شعوبها.

فأذربيجان التي تتكون من شعب يحمل القومية التركية، ويعتنق المذهب الشيعي، تلعب دوراً أساسياً في التجاذبات بين إيران وتركيا، بسبب هويتها المزدوجة، التي حسمتها عائلة علييف مبكراً، برفض الحضور الديني والإيديولوجي والهوية المتشددة على حساب الانتماء القومي والتنمية والعلمانية والانخراط الفاعل في الأسرة الدولية ولعب دور مهم في القوقاز، وها هي باكو تستعد لأن تحتضن التجارة الإقليمية بقوة وسلاسة، عبر عشرات القوانين والتشريعات الحكومية والتنمية الهامة التي تتمتع بها الدولة الأذربيجانية، مسلحة بقوة عسكرية مهمة تحمي كل هذا.

ومن القوة العسكرية تنطلق الأحداث فالشعب الأذري يعيش خيانة مزدوجة قسمت شعبه بين حليفين، هما الأرمن والفرس، الذين وحسب الرواية الأذرية تقاسموا أراضي الأذر التاريخية فإيران اقتنصت أرض أذربيجان الجنوبية وعاصمتها تبريز، وأرمينيا اقتنصت أراض إقليم ناغورونو كاراباخ ونخشوفان، ولهذا اندلعت المعارك في صيف 2020، ضد أرمينيا، من أجل "تحرير" الإقليم الذي تدعي باكو سيادتها عليه، ولكن الحلف السريع الذي تشكل بين روسيا وإيران وأرمينيا، جعل باكو مضطرة للانخراط بشدة في أحلاف إقليمية لدعم جهودها الحربية والاستخباراتية والاقتصادية، عبر إعلان التحالف مع تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة.

في عام 1992، وبعد استقلال أذربيجان عن الاتحاد السوفييتي بعد سقوطه 1991، أعلنت العلاقات الدبلوماسية بين باكو وتل أبيب، ولكن السفارة الأذربيجانية افتتحت في هذا العام 2023، في تل أبيب، تتويجاً لشراكة استراتيجية بين البلدين، فأذربيجان تسعى للحصول على تكنولوجيا المعلومات والذكاء الصناعي، والتقانة الأمنية والمعلوماتية من أجل التحول إلى قطب اقتصادي هام في المنطقة، إضافة إلى الحصول على أحدث الأسلحة الإسرائيلية مثل المسيرات الموجهة والمتفجرة وأدوات التنصت والأسلحة الثقيلة من تل أبيب.. بينما تسعى تل أبيب إلى تطويق الدولة الإسلامية الإيرانية من الشمال عبر زرع شبكات التنصت والتجسس، واستخدام المطارات الأذربيجانية في التدريب أو في حالة الهجوم على المفاعلات النووية الإيرانية، لتتفادى المرور فوق أراض تتحكم بها إيران مثل العراق وسوريا.

أما إيران التي تعتبر وجود دولة "شيعية علمانية" في شمال أراضيها خطراً محدقاً على وجودها وعقيدتها، من حيث تنافي الهدف والوجود، تسعى على الدوام لتحقيق انقلاب سياسي ما أو عسكري في باكو، يعيدها إلى حظيرة الهلال الشيعي.

انحازت إيران أكثر من مرة ضد باكو وحركت فرقاً من الجيش في مناورات على الحدود الشمالية، وفي حرب ناغورنو كاراباخ الأخيرة دعمت جهود أرمينيا ضد أذربيجان

فأذربيجان تقدم نموذجاً عصرياً ومتقدماً للإنسان الشيعي المندمج مع العالم والمنطقة، دون التخلي عن التقاليد والعادات، بل على العكس مع تحقيق انتصارات اقتصادية واجتماعية وتقدماً في معدلات التنمية وحتى انتصارات عسكرية، أضف إلى ذلك خوف إيران من تنامي القوة في باكو من تهورها مع حليفها العبري في دعم الاحتجاجات في تبريز، تلك الاحتجاجات التي قد تصل يوماً إلى مرحلة المطالبة بالوحدة مع الإقليم الأذري الشمالي لتكوين أذربيجان الكبرى كما يحلم القوميون الأذريون.. ليكون نهر أراس في قلب بلادهم.

انحازت إيران أكثر من مرة ضد باكو وحركت فرقاً من الجيش في مناورات على الحدود الشمالية، وفي حرب ناغورنو كاراباخ الأخيرة دعمت جهود أرمينيا ضد أذربيجان مما أثار حفيظة الأذريين في إيران، وفي النزاع الأذري التركمانستاني على نفط بحر قزوين التي تقدر احتياطياته بـ 50 مليون برميل، انحازت طهران إلى جانب عشق أباد. مما سبب صدمة في الداخل الإيراني الذي يعتبر أذربيجان دولة "شيعية" شقيقة. وهذا ما عبر عنه عدد من آيات الله في مجالس مختلفة.

على الجانب الآخر وبعد يوم من زيارة إيلي كوهين إلى باكو، طار وزير الخارجية الإسرائيلي إلى عشق أباد، لافتتاح سفارة إسرائيلية أولى في العاصمة التركمانستانية، حيث قال: "جئت لافتتاح سفارة إسرائيلية على بعد 17 كيلومتراً من الحدود مع إيران"، حيث كانت الدولة العبرية تمتلك سفيراً في تركمانستان ولكنه يعمل من الفنادق وبشكل غير علني.

إن عودة إسرائيل إلى العمق الآسيوي، بعد الجهود الجبارة التي قام بها شيمون بيريز ضمن رؤيته للانفتاح على العالم، وبناء علاقات وثيقة مع دول الاتحاد السوفييتي السابق عام 1992، تبدو سياسة أساسية لتل أبيب من حيث تطويق إيران ودعم الخلافات بين هذه الأطراف والدولة الإسلامية في إيران. ومن جهة أخرى تبدو عبثاً غربياً في العمق الروسي، الذي انحاز إلى إيران على حساب قضايا الشرق الأوسط ككل.

فالمحور الروسي الصيني والملحق به إيران، في مواجهة كاملة مع المحور الغربي وحلفائه، هذه المواجهة التي تمتد من أوكرانيا حيث تتورط إسرائيل وإيران وتركيا، إلى سوريا حيث تتورط إسرائيل وإيران وتركيا أيضاً، إلى عمق آسيا حيث القومية التركية والنفوذ الإيراني لدول جوارها، ليأتي الحضور الأمني الإسرائيلي ليخترق قلب آسيا مما يسبب قلقاً كبيراً لموسكو وطهران على حد سواء.