إسرائيل: أمة الشركات الناشئة

2019.02.24 | 23:02 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كان عام 2013 من أسوأ السنوات التي مرت على مناطق النظام بمدينة حلب. وهي ما ستشيع الإشارة إليه بتعبير «حلب الغربية»، مقابل شطر شرقي يضم الأحياء التي سيطر عليها الجيش الحر بهجوم مباغت منذ منتصف العام الفائت.

كان تباعد مزاج القسمين يرسي أسسه التي ستتصلب مع الزمن، لاسيما بعد إغلاق المعابر بينهما لاحقاً. أما الآن فكانت الحيوية الجديدة أبرز معالم شرق المدينة، مع شيوع مظاهر الحرية المختلطة بالفوضى، ومع الدخول في تجارب غير مألوفة من الحكم المحلي ومجالس الأحياء وتجمعات حرة تولد كل أسبوع، وإمكانية الاعتراض على عمل السلطات الثورية القائمة والتظاهر ضدها بسهولة، والانفتاح على الخارج من صحفيين ومنظمات ودول. عندما كانت سيارات التكسي في حي الكلاسة تنادي: «عنتاب... كلِّس»، وكان يمكن الوصول إلى الإنترنت في أي وقت عبر عشرات الأجهزة الفضائية لدى المكاتب الإعلامية والتنسيقيات والفصائل. ورغم القصف الذي لم يتوقف كانت الثورة في صعود في أنحاء البلاد، وكانت تضفي العزيمة على مزاج هذه الأحياء وتمدها بالتفاؤل. وبالمقابل، كانت الأحياء الأخرى في حالة سبات سريري.

كانت «حلب الغربية» ما تزال تحت وطأة الصدمة التي أصابتها بقوة في العام الماضي، عندما وصلت الثورة فجأة إلى قلبها بعد أن كانت تبدو بعيدة

كانت «حلب الغربية» ما تزال تحت وطأة الصدمة التي أصابتها بقوة في العام الماضي، عندما وصلت الثورة فجأة إلى قلبها بعد أن كانت تبدو بعيدة، هناك في درعا والريف! لم تكن أحياء المدينة المتبقية بيد النظام قد وعت الشلل الذي أصابها بعد تعسر الوصول إلى المعامل في «المنطقة الصناعية» والمتاجر في «حلب القديمة». احتل الشبيحة المذعورون الهائجون مجالها العام الذي تقلص إلى بضعة أحياء وصفت أنها «آمنة» رغم تعرضها لقصف مضاد من الجهة الأخرى لم يمر دون ضحايا. صار السفر خطراً، وتوالت أزمات الخبز والمحروقات، وانهارت الخدمات إلى درجة انقطاع الكهرباء لأيام طويلة متتالية أحياناً، والحاجة إلى زيارة أحد المقاهي لشحن الموبايل ثم المشي إلى حي آخر للتمكن من التقاط الشبكة وإجراء مكالمة!

في ظل هذا المشهد الكالح التقت مجموعة من الطلاب في قاعة مكتبة الدراسات العليا بكلية الاقتصاد وقررت إنشاء ناد للكتاب!

كان الوقت هو أكثر ما يملكه سكان هذا الشطر من المدينة في الحقيقة، بعد انحسار الأعمال الخاصة إلى الحدود الدنيا وتراجع الوظائف الحكومية والجامعة والمدارس إلى مجرد إثبات ورقي للحضور عندما يتيسر. ولم يكن أي من هؤلاء الشبان والشابات يملك، في مواجهة ما تتعذر تسميته في هذه المناطق سوى بـ«الحرب»، غير بضعة كتب أراد تبادل قراءتها مع آخرين.

بدأ نادي أعرني كتاباً بعدد قليل من الأعضاء وخمسة عشر كتاباً فقط. وتطور مع الظروف «المواتية»، كانقطاع الإنترنت لمدة 45 يوماً متتالية في إحدى المرات، ليصل إلى 800 كتاب متنوع تلبية لاحتياجات أنماط مستجدة من القراء: أمهات؛ أطفال؛ اختصاصيين في مجالات متعددة، فضلاً عن الروايات والكتب العامة. فاحتاج الأمر إلى جداول وتصنيفات ومتابعات قام بها أفراد المجموعة بحماس تطوعي، بالإضافة إلى اجتماعهم شهرياً ليتحدث كل منهم عن كتاب قرأه.

في عام 2009 أصدر الصحافيان الأمريكيان من أصل يهودي دان سينور وشاؤول سينجر كتاباً بعنوان Start-up Nation: The Story of Israel's Economic Miracle، ترجم إلى عشرات اللغات. وفي 2010 قدّم مدون عربي شاب ملخصاً طويلاً له أثار اهتمام الأعضاء الثابتين لنادي القراءة الحلبي فقرروا مناقشة الكتاب، ولما انتبهوا إلى أهميته فكروا في ترجمته. في وقت كان إنجاز أبسط الأشياء فيه يحتاج إلى طاقة إيجابية استثنائية؛ تقاسموا الفصول، وتعاونوا على إنجازها خلال أشهر، وكُلِّف أحدهم بمراجعتها وأخرى بتدقيقها لغوياً، ثم طرحوا الكتاب للتحميل مجاناً بعنوان أمة الشركات الناشئة: حكاية معجزة إسرائيل الاقتصادية، بعد أن أضافوا مقدمة توضح عدم تبنيهم آراء الكتاب المعجبة بإسرائيل، وتبين أنهم ترجموه من باب «معرفة العدو».

في إطار البيئة الثقافية والعلمية والمزاجية هذه، المكونة من شبان طموحين من مختلف البلدان العربية، شغوفين بقطاع التكنولوجيا والأعمال والاقتصاد وقصص النجاح؛ قرئ الكتاب على نطاق واسع وبانبهار، لكنه لم يحظ باهتمام مواز من المنابر التقليدية المكرسة للثقافة العربية، على الرغم من أهميته.

يتناول الكتاب بعض الأسباب المطروحة في السابق لتفسير «المعجزة الاقتصادية الإسرائيلية»، ومعطيات وتحليلات جديدة. فعلى سبيل المثال يلقي الضوء على أثر مفهوم «خوتزبه»، الكلمة العبرية التي لا يمكن نقلها حرفياً لكن أقرب ترجمة لها هي «الوقاحة»! يناقش الطلاب أساتذتهم في الطريق إلى الجامعة، يتحدى الموظفون مدراءهم، يجادل الرقباء ضباطهم. بالنسبة للإسرائيليين لا يعدّ ذلك وقاحة بل طريقة حياة ومزاجاً طبيعياً، فهم مغرمون بالاجتماعات التي تخاض فيها مناظرات حامية يرون أنها أفضل طريقة لتجاوز العقبات.

وبحسب المؤلفَين تلعب طبيعة الجيش الإسرائيلي دوراً أساسياً لتكوين شخصية الفرد، بل وتهيئة الأرضية لبيئة الاستثمار. فبالنظر إلى نشأة هذا الجيش، مع إعلان الدولة في 1948، لم يكن يمتلك أي بروتوكولات خاصة، كما لم يرث مؤسساته من بريطانيا التي كان جيشها في فلسطين، بل أنشئ من ميليشيات تحت الأرض، ولذلك لم تحتل التراتبية الهرمية فيه مكانها الملحوظ لدى الجيوش الأخرى. كما أن النقص النسبي في السكان جعل الجيش الإسرائيلي يحوي عدداً قليلاً من الألوية والعمداء مقابل عدد كبير من الملازمين. ولذلك يُطلب من الرتب الدنيا إيجاد الحلول والتصرف والمبادرة الفردية، لا سؤال الرتب الأعلى دوماً عن حل للمشكلة. وهذا المدى من حرية اتخاذ القرار يفيد بوضوح في ثقافة الشركات ومغامرتها.

عندما يدخل الإسرائيليون الجيش في سن الثامنة عشرة، لمدة سنتين إلى ثلاث سنوات على الأقل، فإن قسماً منهم يكون عملياً في الجامعة حتى لو لم يدخلها بعد ذلك

لعب التجنيد الإجباري، للذكور والإناث، دوراً حاسماً. فبينما ينشغل طلاب الثانوية في البلدان الأخرى باختيار الكلية التي سيلتحقون بها؛ يفكر نظراؤهم الإسرائيليون بمزايا الوحدات العسكرية المختلفة التي يمكن أن يتقدموا لاختباراتها، ولاسيما الوحدات الخاصة التي يصعب الحصول على قبول منها. لأن الماضي العسكري أهم من الماضي الأكاديمي في إسرائيل، وكثيراً ما تعطي الوحدة التي خدم فيها مقدّم طلب العمل فكرة للشركة الخاصة عن نوعية الخبرات التي يمتلكها. وفي حالة أفضل هذه التدريبات على الإطلاق، المسمّى «تالبيوت»، المسؤول عن تدريب واسع وعميق على تقديم حلول مبتكرة لتحسين القدرة التكنولوجية للجيش؛ فإن مهارات القيادة والمعرفة التي يقدمها تشكل أسساً مثالية لتشكيل شركة جديدة. ولذلك فإن أكثر خريجي هذا البرنامج، الـ650 فقط خلال ثلاثين سنة، صاروا من كبار الأكاديميين ومؤسسي الشركات.

عندما يدخل الإسرائيليون الجيش في سن الثامنة عشرة، لمدة سنتين إلى ثلاث سنوات على الأقل، فإن قسماً منهم يكون عملياً في الجامعة حتى لو لم يدخلها بعد ذلك. وذلك رغم أن 45% منهم يحملون شهادة جامعية، في واحدة من أعلى النسب في العالم. إذ إن الجامعات الإسرائيلية سبقت قيام الدولة، ففي 1918 أُسست الجامعة العبرية في القدس، وترأس مجلس أمنائها عالم الكيمياء حاييم وايزمان، الذي سيصبح أول رئيس لإسرائيل، وضم المجلس ألبرت آينشتاين وسيجموند فرويد ومارتن بوبر!

ينهي معظم الشبان خدمة الجيش ودراسة الجامعة في منتصف عشريناتهم. وحالياً ينظر المجتمع الإسرائيلي إلى تأسيس شركة أو الانطلاق في مجال التكنولوجيا كأفضل ما يمكن أن يقوم به الشاب الطموح. وبدخول عامهم الخامس والثلاثين يكون كثير منهم قد زاروا أكثر من اثنتي عشرة دولة. إنهم يبدؤون باكراً. ووفق تفسير الكتاب فإن لإدراك الإسرائيليين، منذ إعلان دولتهم، أن مستقبلها القريب والبعيد موضع شك، أثر في شعورهم أن لكل لحظة أهمية خاصة: «عندما تكون لدى رجل الأعمال الإسرائيلي فكرة عن عمل ما، يبدأ بها في نفس الأسبوع».

بالتعاون مع مجموعات الشتات اليهودي في البلدان المختلفة، بمن فيها رجال أعمال تحولوا من التبرع لإسرائيل إلى الاستثمار فيها، وبالاستناد إلى برامج حكومية تدعم رأس المال المغامر، وبدمجٍ أمثل للمهاجرين الروس عبر «وزارة الاستيعاب» والاستفادة من خبراتهم في حاضنات الأعمال التقنية؛ استطاعت إسرائيل تحقيق قفزة كبيرة بالتزامن مع ظهور اقتصاد الإنترنت تقريباً.

كان شمعون بيريز في الخامسة والثمانين عندما التقاه المؤلفان فقال: طوال الوقت نريد التغيير والتغيير. إذ إن معظم الشركات الكبرى تعي أنه في السوق العالمية يعدّ التغيير هو الثابت الوحيد. يتابع رئيس الحكومة الأسبق ومؤسس الصناعات العتيق: الأهم هو أن تتجرأ!!