إسرائيل آمنة.. إيران منضبطة والعرب على ذيل "المقدس"

2020.02.26 | 23:00 دمشق

israel-iran-air-strike_558989_highres.jpg
+A
حجم الخط
-A

يؤسس الفراغ الفكري إلى تعميم التفاهة السياسية. ومعهما ينحدر مستوى المجتمعات في تعاطيها بالشؤون العامة داخل كل دولة أو مجتمع. تعزز التفاهة مفهوم أسطرة الأشخاص، وفق قاعدة "القائد الملهم" الذي تنسجه كل بيئة على مقاس تطلعاتها وطموحاتها، فتعلّق إيمانها عليه لغياب أي مشروع بديل. تكرس هذه الأساطير مفهوم تصغير الدول إلى كيانات صغيرة ترتبط بأشخاص، كارتباط شيعة لبنان بحسن نصر الله، وجزء واسع من مسيحييه بميشال عون، وارتباط الإيرانيين بالولي الفقيه، والعلويين ببشار الأسد. ويطيب لهؤلاء ربط جزء من مجتمعاتهم بشخصهم، ووسم أنفسهم بهالة من القداسة، تقضي على أي تطور فكري أو اجتماعي.

وغالباً ما تستفيد أطراف كثيرة من تعميم هذه التفاهة، بحيث لا تعود المجتمعات قادرة على التطور لا بل تخافه كي لا يطال التغيير شخصية القائد الملهم الذي ينظرون إليه كمخلص لهم. وعند تعميم مثل هذه الحالات تصبح نهاية الدول الوطنية أسهل بالنسبة إلى الجماعات من نهاية المشاريع المرتبطة بالأشخاص القادة بالنسبة إليهم. وهذا ليس تفصيلاً في ظل ما تشهده الدول العربية منذ سنوات إلى اليوم، إذ تحللت فيها المؤسسات ولم يعد من قيمة أو تأثير للقانون أو الدستور، حتى الطبيعة الجغرافية للدول تغيرت وفق ما يمليه هذا الانتماء الأعمى لمشاريع الأشخاص بدلاً من المشاريع الدولتية.

حالة الخواء هذه، تنهي القضايا الكبرى لصالح قضايا أصغر، تكون على مقاس الأشخاص المكرسين لأساطيرهم، فتتحول الأيديولوجيا لديهم إلى شخصانية ضيقة، كانت مقدمتها تتفيه المجتمعات والتمهيد لإقامة كيانات صغرى لا تصب إلاّ في صالح بناء الحاكم الشخص، كالعونيين، الأسديين، الخمينيين، في مقابل ادعاء مواجهة "الإسرائيليين" والذين عقيدتهم لم تنزلق إلى الطبائع الشخصانية، إنما تبقى في إطار القداسة التاريخية التي تؤسس لهم عنفوان التمسك بيهودية وقومية إسرائيل. فتأتي هذه الشخصيات في منطقة الشرق الأوسط، لتقضي على أي مشروع متطور في بناء الدول المدنية والديمقراطية والمتنوعة، لحسابات المشاريع الشخصية التي تأبد إسرائيل وتجعلها متقدمة على غيرها.

وهذا ما تعبّر عنه الناس ببساطتها، في انتقاد تعميم هذه النماذج، وتصب هؤلاء القادة بأن جلّ ما يفعلونه يصب في خانة إسرائيل، لأنه في الأساس لا يمكن بناء دول متقدمة وعصرية بدون بناء إنسان مواطن يتمتع بحقوق وعليه واجبات. سعت إيران في مشروعها التوسعي إلى تدمير البنى الوطنية العربية، والتأسيس لانقسامات اجتماعية مذهبية وطائفية، فاستخدم المشروع الإيراني في سياق تبرير المشروع الإسرائيلي، وأدى مهمته للعلى، ليأتي وقت الحساب وجني الثمار، على قاعدة "إيران منضبطة، إسرائيل آمنة ومستقرة". وقد بدأت ملامح تكريس هذا المشروع في الإعلان عن صفقة القرن، واغتيال قاسم سليماني في إشارة إلى نهاية دوره العسكري والتوسعي في المنطقة، لصالح دور المفاوضات السياسية لتقاسم مناطق النفوذ. يأتي ذلك، بعد تدمير

لبنان تاريخياً يمثّل المرآة التي تنعكس عليها أحوال المنطقة العربية، أو أحوال الدول المجاورة له، لما يمثله من ساحة تقاطعات وصدامات بين القوى الكبرى

سوريا وتمزيقها، وتخريب لبنان في أكبر عملية تخريب ممنهج للعقول مع إيصال ميشال عون إلى السلطة ورئاسة الجمهورية، وإطلاق العنان لجنون العظمة لدى صهره جبران باسيل الذي عمل على خلق عدائيات مع كل المجتمعات الأخرى، السنية والشيعية ومع اللاجئين، لرسم ملامح وحدود المنطقة المسيحية التي يريد أن يتسيد عليها، فيترافق مع طموحاته الجامحة تدمير لبنان بصورته المعروفة، لصالح الذهاب إلى كانتونات وفدراليات تشبه إلى حدّ بعيد الفدرالية المكرسة في العراق وفي سوريا.

وأخطر ما في هذا المشروع، أن لبنان تاريخياً يمثّل المرآة التي تنعكس عليها أحوال المنطقة العربية، أو أحوال الدول المجاورة له، لما يمثله من ساحة تقاطعات وصدامات بين القوى الكبرى. عملية التأسيس للانقسامات المذهبية والطائفية في لبنان التي أرساها جبران باسيل، لا تنفصل عن عملية أكبر من شيطنة الثورات العربية ووسمها بالتطرف والإرهاب للقضاء على أي مشروع مدني عربي متطور يطمح في بناء دولة حديثة تساوي بين مواطنيها.

في الوقت الذي كانت تشتعل فيه دول المنطقة، وخصوصاً سوريا والعراق، كان لبنان بمأمن عن نار الحروب ويتباهى بحفاظه على استقراره، أما الآن وقد تتجه الحروب إلى وضع أوزارها العسكرية وتتجه إلى أشكال متغيرة ومتعددة مالياً واقتصاديا، بغية قطف ثمارها بين الدول، فإن لبنان يشهد أكبر عملية تخريب وتغيير لواقعه الاجتماعي والسياسي، وهو حتماً لن يعود كما كان، بعد حالة الانهيار السياسي والاقتصادي التي وصل إليها، وكما هي تمثّل انعكاساً للأحداث السورية والعراقية على أراضيه، فما سيشهده البلد الصغير مستقبلاً سينعكس أيضاً على سوريا والعراق والمنطقة كلها، نظراً لحدوده مع الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لن يعود لبنان كما كان، وهو أمام خيارين، إمّا تركه يتحلل وينتهي مالياً واقتصاديا بشكل يؤدي إلى تغيير بنيوي في تركيبته السياسية، وهذه حتماً ستقود إلى تقسيم غير معلن على غرار سوريا والعراق، وإما أن تدخل أطراف خارجية لتغير في المعادلة فيه كما في سوريا، عند مجيء لحظة تقاسم النفوذ، فيدخل العامل الإسرائيلي في حرب ساحقة عليه باستثمار حالة الانقسام الطائفي والاجتماعي، وفي ظل حالة الانهيار المالي، فيهدف التدخل الإسرائيلي إلى ضرب حزب الله وبنيته العسكرية ضمن قواعد إيران منضبطة ومقلّمة الأظفار العسكرية، فيما ستحاول التعويض سياسياً بتعديل بنية النظام اللبناني والمطالبة بمنح الشيعة صلاحيات وأدوار أوسع في بنية هذا النظام.