إذا قالت درعا فصدقوها

2021.08.11 | 06:33 دمشق

gettyimages-993322072-2-770x380.jpg
+A
حجم الخط
-A

" 6/8/2021/

بسم الله الرحمن الرحيم

تحية إلى السيد الدكتور بشار الأسد

تحية إلى الجيش العربي السوري الباسل

نحن الموقعات أدناه أمهات الجيش العربي السوري المرابطين على جبهة أهالي درعا الإرهابيين نطالب سيادة الرئيس بإعادة أبنائنا ـ نتواصل مع أبنائنا يوميا، حيث سقط العديد منهم شهداء وهم يقاتلون أهالي درعا، لذلك لا نريد اليوم زج أبنائنا بمعارك خاسرة، تعبنا جميعا ونريد أبنائنا بيننا اليوم".

ما سبق رسالة مرسلة من عدد من الأمهات السوريات (موقعة بالأسماء الصريحة بالمناسبة) إلى بشار الأسد، وصلت إليّ قبل أيام (كما هي مكتوبة) عن طريق بعض الأصدقاء، قد تكون الرسالة غير حقيقية، غير أن الأسماء الواردة فيها (أتحفظ على نشر الأسماء لأسباب أمنية طبعا)، هي أسماء سيدات موجودات، ولديهن أبناء في سن الخدمة العسكرية، وجميعنا نعرف حال الوضع في سوريا حاليا، خصوصا في المناطق الموالية: لم يبق فيها شباب ذكور، ذهب جيلان أو أكثر ضحية الحرب العبثية حفاظا على كرسي بشار الأسد، الذي لم يتورع عن طلب المزيد ممن أصبح في السن المناسبة لتقديمه أضحية العرش الأسدي، وهو ما يجعلني أفترض أن الرسالة حقيقية خصوصا مع ما يحصل في درعا هذه الأيام.

من قبيل المصادفة فقط أن تتزامن الرسالة السابقة مع ذكرى اغتيال الشهيد (معن العودات) ابن درعا الأصيل

لا أستطيع وصف شعوري حين وصلتني تلك الرسالة وقرأتها: سوريا الأم الكبرى الثكلى التي ترتدي السواد دائما بعد أن فقدت أبناءها، وتحول بطنها إلى مقبرة، تمثلها مجموعة أمهات حزينات يفقدن أبناءهن واحدا إثر واحد في حرب مجنونة بين أبناء البلد الواحد، ليصبح الوطن معها مقبرة أو معتقلا كبيرا، لا حياة كريمة ولا حقوق ولا أمان ولا مستقبل ولا حاضر ولا أمن لمن ما زال يعيش في تلك الحفرة الكبيرة المسماة سوريا، وإحساس عارم بالغضب لأن السنوات العشر الماضية، بكل ما مر فيها، لم تستطع أن تغير في ذهنية الموالين لنظام الأسد قيد أنملة، حيث ما زالوا مغيبين تماما عن الحقيقة، ما زالوا يصرون على خطاب التفرقة والكراهية الذي دأب النظام وإعلامه على ترسيخه كخطاب وحيد بين جمهور مؤيديه، ما زالوا يرون في كل من خرج مطالبا بأبسط حقوقه: إرهابيا، وإلا ما معنى أن تعتبر الموقعات على الرسالة أن أبناءهن يحاربن (أهالي درعا الإرهابيين)؟ في عماء استثنائي عن الحقيقة، وفي خلط لمفهوم الدفاع عن النفس والحفاظ على الحق في البلد والأرض والملك والروح الذي اعتمده غالبية أهل درعا، مع مفهوم (الإرهاب) الذي صار بمثابة الاسم لكل من خرج مطالبا بإسقاط النظام، حتى لو كان سلميا وصاحب خطاب وطني جامع وموحد ولا يفرق بين أبناء الوطن الواحد ولا يصنفهم بناء على طوائفهم أو قومياتهم أو انحيازاتهم السياسية.

ولعله من قبيل المصادفة فقط أن تتزامن الرسالة السابقة مع ذكرى اغتيال الشهيد (معن العودات) ابن درعا الأصيل، الذي استشهد بتاريخ 8/8/2011، حين كان يقف في المنتصف في مقبرة درعا (كان أهالي درعا يشيعون شهداء مظاهرة سلمية) بين المشيعين الغاضبين وبين عناصر الأمن المتحفزين بأسلحتهم الملقمة والجاهزة للإطلاق، كان الشهيد معن العودات يقول بصوت مرتفع، وهو يرى الغضب والتحفز "(ما بدنا دم.. ما بدنا دم.. هدوا يا شباب) لكن كلماته هذه استفزت أكثر رئيس فرع الأمن العسكري في درعا المجرم (لؤي العلي)، فاقترب من العودات وأطلق رصاص مسدسه عليه وقتله على الفور، ليصبح الدم الذي حذر منه معن العودات هو اللغة السائدة في درعا للأسف، ظل ثوار سهل حوران رغم كل ما مر بهم وعليهم متمسكين بأرضهم وأمكنتهم، وظلت كلمات الشهيد معن العودات أمثولة لهم، وإن انخرط بعضهم في تنظيمات راديكالية جهادية، خلال السنوات العشر الماضية، فهو ليس المشهد الحقيقي والكامل والعام لأهل سهل حوران ودرعا البلد، إنما المشهد الحقيقي هو انتماؤهم للثورة الأولى التي انطلقت من أرضهم ومن حناجر أبنائهم، هو مشهد الدم السوري الذي لم يتورع نظام الأسد عن سفكه من أبنائهم، والذي شملت لعنته سوريا كلها ولم توفر أحدا، ومع ذلك ظل غالبية الدرعاويين محافظين على توازن وطني وأخلاقي وإنساني، رغم كل ما قدموه من ضحايا، ورغم تركهم وحدهم من قبل الجميع، ورغم كل المحاولات لجرهم لخطاب فئوي وطائفي وإجرامي، ورغم كل ما اتهموا به منذ بدايات الثورة وحتى الآن، من قبل النظام ومواليه، ومن قبل راديكاليي السلاح والإسلام في الثورة السورية.

في بداية الثورة عام 2011، كنت أقيم في دمشق وكانت صديقتي المناضلة هند المجلي ابنة درعا (اعتقلت مرتين خلال الثورة واعتقلت ابنتها وابنة شقيقها واستشهد ابن شقيقها تحت التعذيب واستشهد شقيقها برصاصة غادرة في دمشق، ولم يبق من عائلتها أحد في سوريا اليوم) تشارك في المظاهرات السلمية التي كانت تنطلق يوميا في شوارع درعا البلد، أو في باقي الريف الحوراني، أتذكر أن هند كانت تتصل بي من قلب المظاهرة لتسمعني الشعارات والهتافات التي كانت تنطلق من حناجر أبناء وبنات السهل، كان نبضي يرتفع مع كل هتاف أسمعه على الهاتف في مكالمات هند، مثلما كان يرتفع لاحقا وأنا أتابع على الفضائيات مظاهرات سهل حوران التي كانت تتحول إلى مهرجان وطني للغناء والدبكة الحورانية، رغم عدد الشهداء الذي كان يرتفع شيئا فشيئا من أبناء حوران، كان ذلك قبل أن تقرر إيران وضع يدها بقوة في الملف السوري عبر بطش عناصر حزب الله اللبناني بأهل درعا، وحصارهم مع جيش الأسد وشبيحته المحليين والمستوردين لأهل السهل الكرام والفتك بهم باعتبارهم (سبب ما حدث) كما صرح أحد مسؤولي النظام ذات يوم.

رغم تعنت النظام وحزب الله في العودة إلى بنود التسوية الموضوعة قبل ثلاث سنوات، ورغم مراوغة روسيا الضامنة للاتفاق، فإن أصوات أهل درعا المحاصرين لا تشذّ كثيرا عن صوت الشهيد معن العودات

خلال الأيام الماضية وأنا أتابع ما يحدث في درعا، عاد لي ذات النبض العالي والفخر وبصيص الأمل، إذ رغم كل شيء، ما زال أهل حوران يوجهون بوصلتهم نحو الوجهة السليمة، ما زالوا متمسكين بكرامتهم وأرضهم، ما زالوا يعطون الدروس والعبر للجميع، رغم الحصار الحالي والقصف والموت ومحاولات التهجير، ورغم تعنت النظام وحزب الله في العودة إلى بنود التسوية الموضوعة قبل ثلاث سنوات، ورغم مراوغة روسيا الضامنة للاتفاق، فإن أصوات أهل درعا المحاصرين لا تشذّ كثيرا عن صوت الشهيد معن العودات قبل عشرة أعوام، ولعل بنود البيان الأخير، الذي يقال في الإعلام الدولي أنه مجهول المصدر، والذي رآه البعض فرصة لاتهام أهل السهل بالانفصالية، قد تكون هي الحل الوحيد فعلا لإنقاذ سهل حوران ومن فيه، من بطش مركزية الأسد وحلفائه، علّ مواليه أن ينتبهوا إلى أن ما يطلبه إخوانهم في الوطن، هو السبيل الوحيد لحقن الدماء السورية التي سال منها ما يكفي حتى الآن، أو عل من يعتبرون كل من طالب برحيل النظام إرهابيين أن ينقذهم البيان من عماهم الفئوي، إذ على ما يبدو (مع صمت المعارضة السياسية والائتلاف عما يحدث في درعا) لا حلول ممكنة أخرى لإنقاذ سهل حوران المرشح لكارثة جديدة ولمزيد من الضحايا من كل الأطراف، ولمزيد من التهجير واللاجئين والمشردين، خصوصا مع إغلاق الحدود الأردنية الذي أحكم الحصار تماما على أهل درعا. فهل يكون الحل من درعا مثلما كانت البداية منها؟