قال وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوغلو الأحد الماضي إن إدلب "السورية" باتت بعد تسع سنوات من الثورة كغزة "الفلسطينية"، وإنها تركت لمصيرها من قبل المجتمع الدولي، بينما تحاول تركيا وحدها تقديم المساعدة لأربعة ملايين مواطن في إدلب، إضافة إلى عدد مماثل تقريباً في تركيا نفسها.
تصريح الوزير شاويش أوغلو لافت ودقيق، وإن بدا صادماً ويحمل بالتأكيد دلالات ومضامين سياسية لافتة وعميقة.
عموماً؛ لفهم التصريح وتحليله لا بد من الإشارة أولاً إلى أوجه الشبه الظاهرة بين غزة وإدلب قبل التطرق إلى الأسباب التي أوصلتهما إلى ما وصلتا إليه.
في غزة كتلة بشرية من ثلاثة ملايين فلسطيني تقريباً محاصرين في بقعة جغرافية محدودة، وأيضاً مهملين أو منسيين من قبل المجتمع الدولي، غير المبالي لمصيرهم. وفي إدلب أربعة ملايين تقريباً محاصرين، أيضاً في ظل عدم اكتراث من المجتمع الدولي لمصيرهم، وتتعرض غزة لهجمات إسرائيلية بين فترة وأخرى وتقاوم قدر استطاعتها بما تملك من وسائل وأدوات، وتتعرض إدلب كذلك لجرائم حرب موصوفة - حسب تعريف الأمم المتحدة - من نظام الأسد وحلفائه الغزاة تهون الجرائم الإسرائيلية أمامها، وتقاوم كذلك قدر استطاعتها وبما تمتلكه من أدوات ووسائل.
لا نصير لغزة في ظل تخلي الجميع عنها، وحتى السلطة الفلسطينية نفسها، بينما تسعى تركيا لنصرة إدلب ومساعدتها قدر استطاعتها في مواجهة تحالف روسيا إيران والنظام، إضافة إلى قتلة طائفيين موتورين وشذاذ آفاق من لبنان العراق وأفغانسان وباكستان.
تفرض إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال - رغم إعادة الانتشار في 2004 - الحصار على غزة، وتسيطر تماماً على حدودها البرية الجوية والبحرية، ووتقيد حركة المواطنين منها وإليها، وتعتبرها حكومة تل أبيب خطراً عليها، وتعي صعوبة إخضاعها. لذلك تلجأ لإضعافها دون قتلها تماماً، بحيث تبقيها على قيد الحياة لا تموت ولا تتعافى، وهي تبدو أي غزة وكأنها موصولة للمحلول الغذائي – السيروم – الإسرائيلي، بالمعنى الحرفي للكلمة.
حسب القانون الدولي، ورغم بعض التصريحات المراهقة لقادتها فإن غزة ما زالت محتلة من قبل إسرائيل التي تتحمل المسؤولية الكاملة عنها، ورغم أنها تتحدث أحياناً عن الخيار العسكري، بمعنى إعادة احتلالها مرة أخرى بشكل نظري فقط. وفي سياق التهديد والضغط المعنوي، بينما يعرف حتى أعتى متطرفيها بنيامين نتياهو، ونفتالى بنيت وحتى أفيغدور ليبرمان نفسه أن هذا يكاد يكون مستحيلا عملياً.
في غزة ثمة شركاء للحصار من حلفاء إسرائيل ومتواطئين معها، كما هو الحال مع نظام الجنرال عبد الفتاح السيسي مثلاً، بينما دخل على خط الحصار بشكل مستهجن ومتأخر وغير مبرر طبعاً الرئيس محمود عباس علناً، إنه أي الحصار ثنائي إسرائيلي مصري أساساً.
ورغم بعض المناشدات العربية هنا وهناك إلا أن الموقف العربي العام ضعيف وغير مؤثر، وبالتأكيد فإن الانقسام الفلسطيني - على كارثيته - لا يمثل مبرراً لترك غزة لمصيرها.
ثمة صمت ولا مبالاة من المجتمع الدولي، كذلك تجاه حصار غزة، وليس هناك ضغط جدي على إسرائيل لوقفه وتغيير سياساتها المتبعة، مع سعي دولي موسمي أيضاً لعدم انفجارها أمنياً في وجه الاحتلال والإقليم بشكل عام.
وحدها الأمم المتحدة ترفع الصوت عالياً ضد الحصار الإسرائيلي الذي تعتبره عن حق غير مشروع وغير قانوني وغير مبرر، وتسعى جاهدة قدر استطاعتها لمساعدة غزة من أجل إبقائها على قيد الحياة، وإبقاء الرأس عائماً فوق مستوى سطح البحر.
طبعا ثمة إرادة عالية للصمود وإيمان بعدالة القضية عند الناس في عزة، ورفض الاستسلام أو الخضوع أمام إسرائيل وجرائمها.
في إدلب يقوم نظام الأسد بالدور الذي تقوم به إسرائيل تجاه غزة لجهة حصارها والسيطرة على حدودها الجوية والبرية بموازاة غارات مستمرة ضد المدنيين، واستخدام ذريعة أو شماعة الإرهاب للتنكيل بالمدينة وأهلها والنازحين إليها.
ثمة حلفاء للنظام وشركاء له في الجريمة ضد إدلب، أحياناً يبدو النظام على بشاعته وكأنه مجرد أداة لحلفائه في سوريا وإيران من أجل تحقيق مكاسب إقليمية وإرسال رسائل لهذا الطرف أو ذاك.
إلى ذلك فإن النظام مقتنع، بل مستلب تجاه الخيار العسكري، حتى بالثمن الباهظ الذى تخشى إسرائيل دفعه عبر الخيار العسكري ضد غزة وأهلها.
النظام لا يكتفي بجرائم الحرب الموصوفة المستمرة تقريباً رغم اتفاق سوتشي ومناطق خفض التصعيد، إنما يبدو أنه مصرٌ على اتباع سياسة الترانسفير - التهجير القسري - التي لا تستطيع حتى إسرائيل تبنيها أو تنفيذها علناً في غزة. والنظام "الفاقد للشرعية" لا يبدو مستعداً لتحمّل أي مسؤولية عن حياة الناس، وهو من قتلهم ويستمر في قتلهم، واستجلب الاحتلالات الأجنبية للبلد من أجل بقائه في السلطة، وحتى بثمن تحوّله إلى أسير أو أداة لديهم.
عربياً؛ نرى لا مبالاة وفى أحسن الأحوال دعم طفيف جداً يكاد يكون غير مرئي والأهم ما من موقف سياسي عربي جدي مساند لإدلب، ورافض لتركها وحيدة بل إن المنظومة العربية الرسمية التي تطالب نظرياً وكلامياً برفع الحصار عن غزة، تبدو متماهية تماماً مع نظام الأسد متبنية روايته تجاه إدلب، مدافعة عن أعماله ضد أهلها والنازحين إليها.
في إدلب أيضاً ثمة صمت من قبل المجتمع الدولي غير المبالي تجاه مصير المحافظة وأهلها وفى المقابل يسعى قدر الإمكان كي لا تفيض الأزمة ويتحمل تبعاتها، كما يحدث في ملف اللاجئين مثلاً.
أما الأمم المتحدة فتجتهد للقيام بواجبها قدر طاقتها، وترفع الصوت عالياً للفت الانتباه إلى معاناة المحافظة وضرورة عدم تركها وحدها في مواجهة الحصار وجرائم الحرب ضدها.
من جهتها تقوم تركيا بواجبها قدر استطاعتها وإمكاناتها لتساعد إدلب وأهلها على الصمود، لكن لا تستطيع تحمل العبء وحدها لفترة طويلة كما قال وزير الخارجية شاويش أوغلو.
تركيا تقوم كذلك بجهد لافت في غزة لمساعدة ومساندة أهلها. وهنا تختصر قصة مستشفى الصداقة التركي القصة كلها، حيث أقامت أنقرة المستشفى الضخم بإمكانات ضخمة وحديثة لخدمة غزة وأهلها، وحل الأزمة الصحية المتفاقمة، بينما رفضت قيادة السلطة حتى استلامه أو الموافقة على تشغيله.
أما المفارقة فتكمن في أن قادة غزة التي تعاني ما تعانيه إدلب لا يتوقفون عن مغازلة نظام الأسد ويسعون بكل الوسائل لإعادة العلاقة معه ويتماهون تماماً مع حلفائه وشركائه في محاصرة إدلب وقتل وتهجير الشعب السوري بشكل عام.
للأمانة أيضاً لم يتوقف أهل إدلب-تظاهرات وشعارات كفر نبل نموذجاً- عن مساندة غزة والشعور بشعورها في محنتها ودعمها معنوياً وسياسياً في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية، وللأسف فإن العكس غير صحيح حيث إن قضية إدلب تتمتع بدعم محدود ونادر في غزة في ظل طغيان وهيمنة المنظومة السياسية المتماهية تماماً مع الحشد الشعبي المساند للأسد ونظامه.
في الأخير باختصار لا شك أن إدلب باتت تشبه غزة لجهة الحصار المفروض عليها وصمود أهلها وتجاهل المجتمع الدولي لمعاناتها ومصيرها، لكن لا شك أيضاً في أن إسرائيل لا يمكن أن تنتصر على الشعب الفلسطيني على المدى البعيد والاستراتيجي، وهو نفس ما يمكن قوله عن نظام الأسد والشعب السوري.