icon
التغطية الحية

إدلب.. سباق إنساني على كفالة رضّع تخلى عنهم ذووهم |صور

2021.03.18 | 06:02 دمشق

artboard_5.jpg
+A
حجم الخط
-A

تلاعب "أم اصطيف" طفلةً اقتحمت حياة عائلتها فجأةً من دون سابق إنذار، مرددة عبارة "أنتِ رزقة أنتِ رزقة"، وهي عبارة سمعتها "أم اصطيف" من طبيب راجعته العائلة للكشف عن صحة الطفلة التي عثروا عليها مرميّة في البرد القارس أمام مسجد في بلدة حزانو شمالي إدلب.

بين الحين والآخر، تضجّ المواقع المحليّة والصفحات وغرف التواصل في منطقة شمال غربي سوريا وفي إدلب على وجه التعيين، بخبر العثور على أطفال حديثي الولادة أمام مسجد أو حديقة أو على طريق عامّة، لم يمر سوى ساعاتٍ قليلة على ولادتهم، وهي حادثة متكررة كثيراً ولا يمكن تفسيرها إلا في سياق المأساة العامّة التي تعيشها المنطقة في أعقاب حرب دامية وتهديد مستمر، وتردٍّ معيشي مُضنٍ.  

وعلى عكس التقارير الرائجة التي تفيض في الحديث عن الدوافع والأسباب التي تقف وراء الظاهرة، والتي لا تكاد تنفك عن أسباب اقتصادية في ظل ضائقة معيشية يعيشها سكّان منطقة شمال غربي سوريا؛ حاولنا في هذا التقرير تسليط الضوء على مرحلة ما بعد العثور على هؤلاء الأطفال المتروكين لمصير جديد بعد أن قرر ذووهم التخلي عنهم.

وكان من اللافت في تناول هذه القضية وجدليتها اجتماعياً، هو تناقضٌ محيّر بين إقدام ذوي هؤلاء الأطفال على التخلي عنهم وتركهم لساعات في ظروف مناخيّة صعبة ولمصير مجهولٍ قد يودي بحياتهم، وبين سباق إنساني لسكان المنطقة التي عثر فيها على الأطفال لكفالتهم، رغم تواضع الحال المعيشي لتلك العائلات.

"هبة الله"

"هبة الله" هو الاسم الذي أطلقته عائلة الستيني "إبراهيم عثمان" من سكان بلدة حزانو شمالي إدلب، على طفلة وجدت متروكة في مسجد "جامع عثمان بن عفان" في الحيّ الشمالي الغربي من البلدة، وتحديداً قبل أذان العشاء بخمس دقائق في الـ 11 من شباط الفائت.  

طقم أحمر مؤلف من بنطال و"كنزة" إلى جانب غطاء صيفي ومنشفة، هذا كل ما يدلّ على هذه الطفلة في لحظة تركها، لو شاءت الأقدار يوماً أن تبحث عنها عائلتها، بحسب ما يوضح "الحاج إبراهيم".

تقول "أم اصطيف" زوجة الحاج إبراهيم إن الطفلة كانت على وشك التجمّد، بسبب برودة المناخ يومذاك، ولذلك سارعت حين إحضارها للمنزل إلى وضعها بجانب المدفأة والعناية بها، إذ عرفت العائلة من قبل الطبيب الذي تمت مراجعته، أنه لم يمر سوى ساعات على ولادتها.

وتوضح "أم اصطيف" أنّ السُّرة لحظة وصولها المنزل كانت ما زالت معلّقة، كما أن الطفلة لم ترضع الرضعة الأولى، وواجهت صعوبة لأيام حتى مرنت الطفلة على فتح فمها، بعد أن أهملت عائلتها الأصلية ذلك.

يقول الحاج إبراهيم، إنّ الدافع إنساني بحت في كفالة هذه الطفلة، وإنه إذا ظهرت لاحقاً عائلتها الأصلية فإنه سيترك الخيار لهبة الله ولن يمانع في عودتها، وسيخيّرها بين الذهاب معهم أو البقاء عنده، وفي الخيار الثاني ستكون "قلبه وعيونه"، بحسب ما وصف.

وكان المشجّع الأكبر في كفالة الطفلة لدى عائلة الحاج إبراهيم هي كنته المُرضعة، والتي اضطرت إلى فطام ولدها بعمر السنة وشهرين حتى تشبع الطفلة الصغيرة وتؤمن لها الغذاء الكافي.

سباق إنساني

بعد ساعات قليلة على تنظيم الحاج إبراهيم ضبطاً في مخفر الشرطة في بلدة كللي بحضور شاهدين على كفالة الطفلة والعودة إلى منزله؛ راجعته عشرات العوائل من بلدته "حزانو" لكفالة الطفلة، إلا أنّ العائلة رفضت وقالت إنها أمانة لديها حتى ظهور عائلتها الأصلية.

ولفت مدير مركز المغتربين لرعاية الأيتام في ريف إدلب، "علي عتك"، إلى أن الأطفال كحالة هبة الله ليسوا بحاجة إلى دار أيتام، وذلك بسبب الإقبال الكبير من قبل كثير من العائلات التي تطلب رعايتهم، وإنهم في المركز الذي يتولى إدارته يتلقون طلبات مستمرة من قبل الأهالي لرعاية هؤلاء الأطفال إذا اقتضت الحاجة.

ويضيف لموقع تلفزيون سوريا، أنّ عائلات عديدة تراجع مركز الرعاية وتودع معلوماتها الشخصية من مكان إقامة ورقم للتواصل، بهدف التواصل معهم على الفور لكفالة طفل.

آلية تسجيل مجهولي النسب

يعتبر "طلال زعيب" معاون وزير الداخلية للشؤون المدنية في حكومة الإنقاذ، أنّ إجراءات تسجيل مجهول النسب في جميع البلاد العربية والإسلامية موحدة تقريباً، وهو ما يطبق في محافظة إدلب والمناطق الخاضعة لإدارة الحكومة.

ويدخل في حكم مجهول النسب، الطفل مجهول النسب ولا يوجد له معيل شرعاً، وكذلك الطفل الذي يضل الطريق ولا يمتلك المقدرة للإرشاد عن ذويه لصغر سنه أو ضعفه العقلي أو لأنه أصم، أبكم، ولا يحاول أهله استرداده.

ويعتبر مجهول النسب سورياً وعربياً ومسلماً ومولوداً في سوريا في المكان الذي عثر عليه فيه ما لم يثبت خلاف ذلك، بحسب "زعيب".

وإذا تمكنت عائلة من الحصول على طفل لكفالته ورعايته، فيوضح "زعيب" إجراءات التسجيل، حيث يُسجّل الطفل مجهول النسب بناءً على شهادة تنظم من قبل المُلتقط أو المؤسسة التي يودع إليها، ويسمّي أمين السجل المدني المولود، وينتحل له اسماً مفترضاً لوالديه وكذلك اسم جد مفترضاً له، ليكون اسم الجد كنية الطفل مجهول النسب.

ويحق للمؤسسة أو الشخص الذي سيرعى الطفل اقتراح اسم للطفل فقط، ولا يحق له تسمية والديه واسم الجد، وكذلك يتم تسجيله في مسكن خاص به بعد تسميته أصولاً.

وتسجل هذه الشهادة في السجل المدني في المنطقة التي وجد فيها أو في السجل المدني مكان تنظيم شهادة الولادة مع تدوين مكان ولادته الحقيقي الذي عثر عليه فيه، وتبدأ المدة القانونية للتسجيل من تاريخ العثور عليه.

وإذا تجاوز مجهول النسب الثامنة عشرة من عمره، فيوضح "زعيب" أنه على أمين السجل المدني أن يدون على الطلب المقدم من رب الأسرة المحتضنة، موافقة مجهول، ويؤكد عدم جواز تصحيح اسم ولد مجهول النسب إلى اسم رب الأسرة الحاضنة باعتبار أن التبني مُحرم شرعاً.

 

المجالس المحلية صلة وصل

خلال إعداد التقرير، تواصلنا مع المجلس المحلي في بلدة سرمين شرق إدلب، الذي تعامل مع حادثة مماثلة تقريبا من حيث الظروف، لطفل تم العثور عليه في الطريق الواصلة بين مدينة إدلب وبلدة سرمين، في تاريخ 17 أيلول 2020.

يضع علي الطقش رئيس المجلس المحلي في بلدة سرمين، خلال حديث مع موقع تلفزيون سوريا بعض ملاحظاته التي عاينها لحظة العثور على الطفل في منطقة أشجار زيتون قرب البلدة، منها اللباس الجديد والنظيف وعبوة الحليب، والغطاء المغطى فيه. 

وبقي الطفل ثلاثة أيام لدى عائلة في البلدة مؤقتاً، تخلل هذه الفترة تعميم على مواقع التواصل الاجتماعي، بغية الوصول إلى عائلته، لكن محدثنا "الطقش" يشير إلى أنّ معظم المتواصلين مع المجلس المحلي هدفهم كفالة الطفل، من دون ورود أية رسالة من عائلته، وهو ما يؤكد أنّ رمي الطفل جاء مقصوداً.

في يوم 21 من الشهر ذاته، تمّ تسليم الطفل إلى فريق مكلف من دار أيتام في مدينة إدلب ضمن محضر ضبط رسمي لمخفر الشرطة في مدينة بنش بريف إدلب، وعند هذا الحدّ انتهى دورنا في المجلس المحلي، بحسب "الطقش"، ليتبين لاحقاً أن الطفل صار برعاية عائلة متطوعة.

كيف نحد من الظاهرة؟

يعتبر "سامح جرود" ناشط حقوقي والمدير التنفيذي لمركز أبعاد للدراسات القانونية، أنّ هذه الفئة من الأطفال مجهولة النسب، يطلق عليها صفة "اللقيط" وليست بالضرورة أن تكون بسبب علاقة غير شرعيّة، إنما هناك أسباب اقتصادية واجتماعية عديدة، والأخلاقية واحدة منها.

وبشأن سبب حظر الشرع والقانون تسجيل الطفل على اسم العائلة الكافلة للطفل، يوضح "جرود" أن ذلك لمنع اختلاط الأنساب وضياع الدماء، كما لا يستفيد مستقبلاً من الميراث.

ودعا محدثنا "جرود" إلى ضرورة إطلاق حملات توعوية من قبل المنظمات الحقوقية، تشمل تفعيل مراكز وأبحاث وورش، تهدف إلى توعية المجتمع من الآثار المترتبة على الزواج غير المدروس والمناسب، وكذلك الطلاق (الظاهرة المتفاقمة جداً في شمالي سوريا) والعقوبة الشرعية المترتبة والجريمة المرتكبة بحقّ الأطفال المتروكين في الأماكن العامة، والتي قد تؤدي بهم إلى الموت والهلاك.

ويضيف قائلاً "المشكلة تكمن في علاقة زواج غير صحيحة، أسبابها زواج القاصرات، أو الزواج من مجهولي النسب أو أشخاص غير معروفين، أو عدم اتخاذ الإجراءات المناسبة لضمان استمرار مُنتج الزواج من عائلة وأطفال".

ويعرج محدثنا إلى الأسباب الاجتماعية، ومنها أن كثرة عدد البنات لدى بعض أرباب الأسر، يدفعهم إلى تزويج بناتهم بطريقة غير صحيحة ومدروسة، أو أسباب اقتصادية بسبب عدم القدرة على تأمين معيشة كريمة للأطفال وعناية معقولة.  

ويستعيد في حديثه مع موقع تلفزيون سوريا، مشاركته في عام 2017 في إطلاق حملة توعية بشأن زواج القاصرات أو الزواج من مجهولي النسب في محافظة إدلب، مؤكداً حق الطفل في الحصول على نسب والده.