إدلب بين الأخضر والأسود 

2018.09.26 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد غياب مرير، عاد الأخضر ليقترن باسم إدلب مجدداً، ويعيدها سيرتها الأولى (إدلب الخضراء)، وما كانت هذه العودة الواقعية والرمزية لتكون لولا ملحمة أسطورية كان أبطالها أبناء إدلب والمُهجّرون الذين لاذوا بها، فكانوا الأبناء البررة وكانت الأم الرؤوم.

وعلى امتداد سبع سنين ونيّف من سنيّ الثورة السورية؛ عاشت إدلب فصولاً تغيرت فيها ألوانها لتناسب زيّ المرحلة وأهواء المسيطر، فتأرجحت بين الأخضر والأسود، ليس على صعيد الرايات وحسب، وإنما على صعيد اليأس والأمل.. الرجاء والقنوط.. الخوف والشجاعة، وكل تلك الثنائيات يمكن التعبير عنها بالأخضر والأسود أيضاً.   

واليوم؛ ومع إبرام اتفاق النجاة، والذي يراه البعض موقوتاً، يبلغ صراع اللونين مداه ويدخل معركته الأخيرة، فلا بد اليوم من منتصر يختم القصة ويفتح باباً على احتمالاتٍ ما بعد مرحلية، فإما إدلب خضراء لها حضورها بأسهم كاملة في الحل النهائي السوري، أو إدلب سوداء تنضم إلى قافلة المدن المحكومة بالموت وصناعته. 

الصراع بلغ ذروة التعقيد قبل الخاتمة، ولا بطل واضح يمكن التنبؤ به أو بما يمكن أن يفعله من خوارق كي يقود المركب إلى ضفة آمنة

الصراع بلغ ذروة التعقيد قبل الخاتمة، ولا بطل واضح يمكن التنبؤ به أو بما يمكن أن يفعله من خوارق كي يقود المركب إلى ضفة آمنة، معظم السكان المحليون؛ وكذلك القوى الدولية الفاعلة؛ تراهن على تركيا وعناد أردوغان، وهو الذي بدأ المهمة وسعى لها سعيها وأنجزها، على الرغم من هول الصعاب وعتوّ الخصم، إلا أن ثمة متربصين داخليين وخارجيين يسعون في أرض إدلب فساداً، ويبذلون آخر وأخبث المكائد لإفشال مشروع الحياة وإرساء مشروع الموت في حاضر إدلب ومستقبلها.   

وفي هذا السياق بدا موقف جماعة "حراس الدين" من الاتفاق طبيعياً وغير مؤثر إذ يمكن السيطرة عليهم وتحييدهم، وهم الأقل عدداً وعدة وأنصاراً، إلا أن موقف "هيئة تحرير الشام" المؤجل، ما زال يثير الكثير من الأسئلة والشكوك، وهم القوة التي لا يُستهان بها في الميدان، والذريعة الكافية لنقض الاتفاق أو إعلان فشله، وحينئذ ستكون الشرعية الأممية في صف ناقضي الاتفاق، ويُحكم على إدلب بالموت قتلاً أو اقتتالا.. 

وفي الصفحات الأخيرة من رواية إدلب، برزت شخصيات لم تكن حاضرة في النص، أو أنها كانت مركونة على الهامش، وفجأة استنفرت خطباءها وجاءت تحاضر وتشارك في تقرير المصير، فهذه مصر ترفض إجلاء المتشددين الأجانب من إدلب، وكأنهم أصبحوا قدر إدلب وأصبحت قدرهم، أو كأن ليس لهم دولاً يحملون جنسياتها وتربوا فيها وتعلموا التشدد في أوكارها أو مدارسها حتى، وهي الأولى باستعادتهم ومحاكمتهم وفق قوانينها.     

ربما استطاعت مصر جرّ رجل دول عربية أخرى إلى الموقف الذي هو في جوهره محاصرة إدلب وتسويقها كمرتع للإرهاب

وربما استطاعت مصر جرّ رجل دول عربية أخرى إلى الموقف الذي هو في جوهره محاصرة إدلب وتسويقها كمرتع للإرهاب، فإحجام وزراء خارجية مصر والأردن والسعودية والبحرين والإمارات، عن إصدار أي تصريح بعد لقائهم أول من أمس بالمبعوث الأممي إلى سوريا، ستافان دي مستورا، حيث بحثوا قضية إدلب معه، ربما يعطي انطباعاً بتبنيهم الموقف المصري، خاصة وأن معظمهم يمكن أن يفعلوا ذلك كيداً لتركيا وسعياً لإفشال مشروعها في سوريا، مع العلم أن دولتين منهما شرعتا علناً بدعم انفصاليي "روج آفا" شرقي الفرات مناكدة لتركيا وإرضاء للحليف الأمريكي، من دون وجود أي مصلحة وطنية أو إقليمية لهما أو للسوريين هناك!. 

وثمة صراع لا يقل تعقيداً عن الصراع العسكري الداخلي، والسياسي الخارجي، بدأ يتفاعل منذ اللحظات الأولى لإعلان اتفاق إدلب، وهو صراع الإدارة والقفز إلى كرسي سلطة أصبحت ممكنة، وفق ما ترى جماعات سياسية معارضة متناحرة.. فالحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ والإخوان المسلمون وتيارات مدنية ودينية عدة، تخوض صراعات عنيفة للسيطرة على إدارة المنطقة، وآخر همّ هؤلاء جميعاً تخديم ثلاثة ملايين مرابط مصابر منذ سبعٍ عجاف، وكل ما يتم طرحه هو نظريات سياسية لآليات الحكم، هل نحكم مثل حماس في غزة، أم نحاكي تجربة الإدارة الذاتية في كردستان؟.. هل نحكّم الشريعة أم نحتكم لقانون مدني...؟.  

ومع تعدد هذه الصراعات وتشابكها وقدرة المتخاصمين على المناورة والمداورة، تبقى حقيقة إدلب هي الأرسخ والآكد، فلا هي وقعت في فخ الضفادع، ولا هي حالفت مخاتلاً يبيعها في أول مزاد سياسي، بل عرفت كيف تختار حليفها وكيف تعالج مواطن الضعف، والأكثر من ذلك أنها عرفت كيف تجبر العالم على الاعتراف بربيعها، فاللون الأخضر الذي لازم اسمها ورسمها لا يمكن لعين أن تتجاهله ولا لكائد أن يشكك فيه.