نعاه زملاؤه، سواء في الفنون التشكيلية أو في أدب الرواية والقصة. ومرّ أصدقاؤه ومحبوه مرور الكرام والأوفياء بأعماله النحتية ولوحاته، وبرواياته وقصصه. ودمعت بحزنٍ عيون أفراد أسرته وأقربائه، النازحين داخل البلاد والمهجّرين في المنافي. بينما بكت الرقة وندبت على فقدان جزء لن يعوَّض من تاريخها.
أما أنا، فسأحدثكم عن أيمن الناصر الذي غادرنا قبل يومين، كما لم يتحدث أحدٌ من قبل. تفاصيل وأشياء من هنا وهناك، حدثني عنها "أبو أحمد" خلال ساعات سهرنا المستمرة حتى خيوط الفجر الأولى، في صيف عام 2012 الذي شهد نزوح عشرات الآلاف من أبناء مدينة دير الزور إلى الرقة، نتيجة اجتياح قوات نظام الأسد المدينة وشنّ الحرب على جميع أحيائها.
حكاية "صنم" حافظ الأسد
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أراد محمد نجيب السيد أحمد -محافظ الرقة حينذاك- صنع تمثال ضخم لحافظ الأسد بهدف وضعه وسط ساحة الإطفائية المطلة على بناء المحافظة بالمدينة. وتلافياً لشبهات قد تدور حول صفقات خاصة مع صانعي التمثال الذي خُصّص لتنفيذه أكثر من مليون ليرة سورية (قرابة 20 ألف دولار في ذلك الوقت)، طلب المحافظ من نحاتين سوريين، بينهم أيمن الناصر، تقديم تصاميمهم لمشروع التمثال "المنشود"، على أن ينفّذ العمل صاحب التصميم الأفضل.
قال لي أيمن وهو يضحك: "كنت مجبراً، وكذلك بقية النحّاتين، على تقديم تصاميمنا للمحافظة وإلا كان مصيرنا في (بيت خالتنا)، فقدّمت تصميماً تقليدياً وغير ذي أهمية، وهو عبارة عن تمثال لحافظ يلبس عباءة (بشت)، على غرار اللوحات والصور المبتذلة والمعلّقة في جميع فروع اتحاد الفلاحين، والمصارف الزراعية، والوحدات الفلاحية، وشُعبة الريف الثانية لحزب البعث. كنت متأكداً من أن التصميم سيتم استبعاده".
بعد تقديم التصاميم، ومن غير المتوقّع، وقع الاختيار على مشروع أيمن الذي طُلب منه مراجعة المحافظة للتوقيع على العقد والبدء بتنفيذ العمل.
"وقع المحظور، ولكي أقنع نفسي بالقبول -الذي لا مفرّ منه أصلاً- بدأت بالتفكير بذلك المبلغ الكبير الذي كنت في أمسّ الحاجة إليه لانتشالي من واقع المعيشة المزري ومساعدتي على اقتناء منزل يؤويني مع زوجتي وأطفالي الأربعة وقتئذٍ، وتَرْك منزل والديّ الذي كنا نشاركهما فيه"، قال أيمن.
وتابع: "مساء ذلك اليوم، فوجئت بالنحّات نشأت رعدون يزورني في مرسمي. وبعد تبادل التحايا والمباركات، دخل رعدون في الموضوع من دون مقدمات طالباً مني التنازل عن المشروع لصالحه، وقال لي رعدون بالحرف: التمثال لي إن وافقتَ أم لم توافق، ولكنني رأيت من اللباقة أن أحيطك علماً وأطلب من حضرتك التنازل علناً عن ذلك مقابل بضعة آلاف من الليرات، أو قسراً بدون أي مقابل!".
غادر نشأت رعدون (المقرّب والمدعوم من النظام السوري) المرسم بعد أن رفض أيمن التنازل العلني والنقود "البديلة"، ليذهب المشروع "بقدرة قادر" إلى فريق رعدون الذي أنجز تمثال حافظ الأسد مرتدياً "العباءة"!
يتابع أيمن: "لا أستطيع وصف مشاعر القهر والحزن والإهانة التي اعترتني في تلك الأيام، وكم تمنيت لو أنني رفضت منذ البداية تقديم التصميم وتحمّل جميع تبعاته الأمنية. وللهروب من تلك الحالة قررت مغادرة البلاد".
توجّه أيمن إلى اليمن لتدريس الفنون فيها، وكانت له محطة في مدينة "حوث" التي وصفها في روايته "اللحاف" بـ "المدينة الحضرمية التي كان نصيبها من الحضارة نصيب الشرق الأوسط من الديمقراطية".
شهور قليلة قضاها أيمن في اليمن ثم عاد مجدداً إلى مدينته الرقة. وبعد مدة وجيزة، اختارته "جامعة برلين الحرة" لتزيين قاعات البناء الجديد لمتحف دير الزور الوطني الذي افتتح عام 1996 بتمويل من الحكومة الألمانية، بمنحوتاته المحاكية لآثار وتراث المنطقة. فكادت منحوتات "الثور المجنّح" والجداريات الآشورية التي أبدعها أيمن، أن تطغى بجمالها على اللقى الأثرية الحقيقية التي ضمّها المتحف.
المأوى والملاذ
تلك الذكريات وغيرها، كان يسردها عليّ أيمن في مبنى "اتحاد الفنانين التشكيليين" الذي أقمت فيه متخفّياً لعدة أسابيع، ونمتُ بداخله أيضاً، رغم مجاورته لفرع المخابرات الجوية! فالمدينة (صيف 2012) كانت ما تزال تحت سيطرة النظام، وأيمن كان يشغل حينذاك منصب مدير فرع اتحاد الفنانين التشكيليين بالرقة.
بالإضافة إلى أنه كان المأوى والمخبأ الوحيد لي، كان مبنى الاتحاد ومكتب مديره -أيمن- الملاذ النهاري لمختلف الكتّاب والفنانين والأدباء النازحين من دير الزور، وغالبيتهم من المعارضين.
قلت له ذات ليلة، بعد مغادرة آخر أولئك الزائرين: "لا شك أن مختلف الأجهزة الأمنية تعلم بأنك معارض للنظام أو على الأقل متضامن مع الثوار. بالمقابل، فإن بعض ثوار الرقة الذين لا يعرفونك شخصياً، ربما سيصنّفونك ضمن فريق الموالين كونك ما تزال على رأس عملك في إدارة الاتحاد، وأنا بصراحة قلق عليك. فلماذا لا تفعل مثل بقية المدراء الذين سمح لهم النظام بإغلاق دوائرهم والتزام منازلهم؟".
ردّ أيمن ضاحكاً: "وأين ستبات حضرتك؟ ومن سيجلب لك الطعام واللباس؟ وأين سيقضي (ربعك) من المعارضين المثقفين الديريين أوقاتهم ويسردون سوالفهم؟ لا تخف عليّ، يوجد لديّ (كومة) أزاميل ومطرقات في خزانة المكتب، وبمجرد مداهمة الأمن للاتحاد سنهجم عليهم".
منزله كان بالإيجار، وكان يضمّ إلى جانب أسرته التي أُضيفَ إليها ابن خامس، أكثر من 10 ضيوف من أقاربه النازحين من دير الزور، وبقوا مقيمين فيه إلى ما بعد انسحاب النظام من الرقة وسيطرة فصائل المعارضة عليها، ومن ثم الاستيلاء عليها من قبل تنظيم "داعش".
تحوّلت اللوحات والمنحوتات التي تضمّها صالة اتحاد الفنانين التشكيليين، وغالبيتها من أعمال أيمن، إلى ركام ورماد على يد عناصر الفصائل المتشددة وتنظيم داعش، وكاد أيمن أن يفقد حياته على يد الأخيرين بعدما احتجزوه واتهموه بالكفر والإلحاد بوصفه صانع "الأصنام والأوثان"، إلا أن إرادة الله شاءت أن يتم الإفراج عنه بعد تدخّل العديد من أبناء المدينة الذين نصحوه بمغادرة المدينة على الفور. فما كان من أيمن إلا الفرار سراً من الرقة مع أفراد أسرته لينتهي بهم المطاف في مدينة شانلي أورفا التركية.
ما زلت أتذكّر قهقهتنا العالية حين التقيته أول مرة بعد مجيئه إلى تركيا، وكان ذلك أواخر عام 2014، حين قال (بالعامية): "ألف الحمد لله، لأن رب العالمين ما كتبلي أنحت صنم حافظ الأسد اللي شخّ (تبوّل) عليه أبو طه".
من سيرة الراحل أيمن الناصر
ولد أيمن في قرية المريبط التي غمرتها مياه "سد الفرات" بريف الرقة عام 1958، لعائلة تنحدر من مدينة دير الزور، وهو ابن الكاتب والأديب أحمد فرحان الناصر.
انتسب إلى نقابة الفنون الجميلة في سوريا عام 1981، وبدأ بتدريس مادة النحت في معهد إعداد المدرسين منذ عام 1992 حتى 2005، كما درَّس في مركز الفنون التشكيلية منذ عام 1978 حتى 2003.
شارك الراحل في إقامة العديد من المعارض الفنية، التي تنوعت بين النحت والرسم داخل سوريا وخارجها، وهو أحد مؤسسي تجمع فناني الرقة. كما ساهم بفعالية في إقامة الأنشطة الأدبية والثقافية السورية في منفاه التركي، ليرحل تاركاً خلفه بصمته الفنية، في التشكيل والنحت وفي أعماله الأدبية التي صدر منها مؤخراً، مجموعته القصصية "رهان الغيم"، إضافة إلى روايتيه "اللحاف" و"روجين".
أعماله النحتية
أنجز الراحل العديد من الأعمال النحتية، يأتي في مقدمتها تمثال الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي يتصدّر الحديقة المركزية المسماة باسمه في الرقة، ونصب "بنت البلد" على الرصيف المقابل لحديقة "الرشيد".
كما نحت الناصر "بورتريهات" لشخصيات تاريخية أخرى من بينها "أبو جعفر المنصور"، و"البتاني"، و"ربيعة الرقي"، و"ثابت ابن قرة الحراني"، وصولاً إلى الأديب الرقي "عبد السلام العجيلي".
ومن أهم أعماله النحتية المنفذة أيضاً: نصب "جلجامش يبكي إنكيدو"، و"حورية البحر"، ونصب تذكاري لابن خلدون عند مدخل الثانوية التي تحمل اسمه (1981)، مجسمات آشورية بالحجم الطبيعي نحت مباشر(متحف دير الزور الوطني- 1995)، خمسة رجال في مقهى شعبي بالحجم الطبيعي (متحف التقاليد الشعبية بدير الزور 1996)، نصب تذكاري رباعي لـ "ربة الينبوع" عند مدخل الجسر القديم في الرقة (1992)، نصب أبي العلاء المعري عند مدخل الثانوية التي تحمل اسمه في الرقة، نصب تذكاري للفروسية يمثل رأس حصان عند مدخل نادي الفروسية بالرقة، ولوحات جدارية عدة في داخل سوريا وخارجها.
وبالإضافة إلى ميادين الرقة والعديد من المدن السورية؛ توزّعت أعمال أيمن النحتية الكبيرة والصغيرة والمتوسطة ولوحاته التشكيلية على عواصم دول عربية كاليمن والمملكة العربية السعودية ولبنان والأردن والسودان.