لقد تنبّأ كاتبُ هذا المقال منذ سنين بأنّ بشّار الأسد سيصبحُ الوجهَ الإعلاميّ والعلامةَ الفارقة لـ "الانتصار الكارثيّ" (الانتصار باهظ الثّمن، الأشبه بالهزيمة منه بالانتصار) في حال استطاعت روسيا وإيران تمكينه من تحقيق الهيمنة العسكريّة. إذ ينفجر ما بقي من اقتصاد سوريّا اليوم تحت ضغوط الفشل الإداري، والفساد، والعقوبات، وفيروس الكورونا، في حين يتعارك أفراد العشيرة الحاكمة، كما هو عهدهم وديدنهم، على سرقة ما تبقّى. وقد بات جليّاً للجميع أنّ بشّار الأسد لم يكن أهلاً للحكم وبأنّه قد فقد شرعيّته، اللّهم إلّا لأفراد أسرته، بل ولربّما صار ذلك جليّاً لهم أيضاً.
لكنّ الأحداث التي جرت مؤّخراً في سوريّا تطرح تساؤلاً: هل لدى المعارضة السّوريّة في الخارج القدرة على النّهوض بدورٍ سياسيّ بنّاء إذا ما بدأ النّظام بالتّرنّح أو الانهيار؟
هذا لا يعني أنّ النّظام على وشك السّقوط. فأغلب الظنّ أنّ هناك عاملين مهمّين سيسعيان جاهدين للحيلولة دون سقوطه إلى أجل غير مسمّى.
إذ إنّه ما من مصلحة إيران أن تدعَ تابعاً ثميناً يأتمر بأمرها يختفي ببساطة هكذا. صحيحٌ أنّنا سمعنا أنّ بعض المسؤولين الإيرانيّين قد باتوا مُتعبين من المغامرات الخارجيّة المُكلفة نظراً لتضاعف الأعباء النّاجمة عن العقوبات الأميركيّة، وكوفيد-19. لكنّ خسارة الجسر السّوريّ الطّبيعيّ الذي يصل الجمهوريّة الإسلاميّة بوجودها في لبنان سيكون نكسةً ذات تبعات هائلة. وسيصبحُ سؤالُ "من كان السّبب في خسارة لبنان؟" تُهمةً تُشعلُ الشّأنَ السّياسيّ في الجمهوريّة الإسلاميّة ويتلاوم السّاسةُ بشأنها مشيرين بأصابع الاتّهام إلى بعضهم البعض طالما ظلّت إيران تحت سطوة الملالي المسيّسين والفاسدين ورجال العلاقات العامّة سلسي الحديث الذين وضعوهم في الواجهة، وزبانيّتهم الذين لا يتردّدون في استخدام العنف لفرض سيطرتهم.
ومع أنّ عدداً متزايداً من المسؤولين والباحثين الرّوس قد أصبحوا على قناعة بأنّ الأسد هو شَرُّ عميل "زبون" يمكن لهم أن يعملوا معه على الإطلاق، إلّا أنّهم يصطدمون بحقيقة أنّ المصالح السّياسيّة الشّخصيّة للرئيس فلاديمير بوتن تختلف عن مصالح الأمن القوميّ لروسيا—في الحالة السّوريّة على أقلّ تقدير. فحال روسيا سيكون أفضل بكثير لو كانت هناك حكومة وحدة وطنيّة سوريّة خالية من أزلام النّظام تتعهّد بالحفاظ على شراكة مستمرّة مع الكرملين. بيد أنّ بوتن ما زال يرى الأسد على أنّه البيّنةُ التي لا تُردّ على صدق ما يدّعيه أمام الشّعب الرّوسيّ من أنّه هو الرّجل الذي استطاع إعادة موسكو إلى مجدها القديم قوّةً عالميّةً عظمى. فكيف له اليوم أن يسعى للإطاحة —حتّى ولو كان ذلك في صالح روسيا— بذات الشّخص الذي زعم بأنّه قد أنقذه بعد أن ملأ الدّنيا لسنين بصخب حديثه عن رغبات إدارة أوباما بقلب أنظمة الحكم في العالم بالقوّة؟
ومع ذلك فإنّ ظروف سوريّا الاقتصاديّة والاجتماعيّة المُزرية، والتي يضاعفها الخلافُ الدّائرُ داخل النّظام تحولُ دون طمأنة أيّ أحد بشأن حظوظ الأسد في البقاء في السّلطة لزمن طويل. إذ لطالما ارتكزت قدرته على قيادة أجهزة الدّولة للقمع والإرهاب على "الشّرعيّة" المشوّهة التي يتمتّع بها بصفته وريث مؤسّس النّظام ومهندسه الأصليّ حافظ الأسد. ولطالما استقرّت حسابات أفراد النّظام —حتّى أولئك الذي هم على دراية ومعرفة بقصور الأسد في القيادة— على إيمانهم بأنّ إزاحته قد تخلّف حالة فوضى سياسيّة دمويّة عارمة، تعيد سوريّا إلى حقبة ما قبل السبعينيّات بما اتّسمت به من مؤامرات وانقلابات. لكن ماذا لو كانت الأسرة الحاكمة هي نفسها مصدر انعدام الاستقرار؟
إنّ أيّة حركة ستجري لإزاحة الأسد ستكون حركة من داخل النّظام في المقام الأوّل. لكنّ الذين سيستولون على الحكم حينها لن يرثوا تركة آل الأسد. وسيكون أمامهم تحدٍّ لتثبيت مواقعهم على نحو قابل للاستدامة شيئاً ما بعد مضيّ خمسين سنة على حركة حافظ الأسد "التّصحيحيّة". إحدى الخيارات التي ستكون بحوزتهم للتعامل مع ذلك هي توسيع قاعدتهم السّياسيّة عن طريق دعوة شخصيّات من المعارضة من داخل سوريا وخارجها للبحث في ترتيب حكومة وحدة وطنيّة. فهل ستكون المعارضة الخارجيّة مستعدّة للقيام بدور بنّاء في ذلك؟
لقد اتّخذ الجسم الرّئيسيّ للمعارضة الخارجية ممثّلاً بالهيئة العليا للمفاوضات من الرّياض مقرّاً له منذ عام 2017. أمّا ائتلاف قوى الثّورة والمعارضة، الذي تأسّس عام 2012، فمركزه اسطنبول. ولقد صعّب وجود المعارضة في تلك الأمكنة عليها العمل باستقلاليّة ووحدة نيابة عن أكثر من عشرين مليون سوريّ داخل سوريّا وخارجها، وكلّهم سوريّون عانوا الأمرّين من إجرام نظام الأسد ومن تصرّفات الفاعلين الإقليميّين الذين غلّبوا مصالحهم الضيّقة أو مشوا في دروب الحلول الطّائفيّة. وإذا بدأ النّظام بالانهيار فإنّ الصّعوباتِ الآنفِ ذكرها هذهِ قد تصبح حينها خِنجراً يُصيب العمل في مَقْتل.
تظلّ تركيّا حليفاً مهمّاً في الناتو للولايات المتّحدة، ولقد كانت شكاوى أنقرة بشأن فشل إدارة أوباما في البحث عن استراتيجيّة مشتركة لسوريا مُحِقّةً بالكامل. فقد كانت أولويّة الرّئيس باراك أوباما هي عدمَ السّماح للمذبحة السّوريّة بأن تعكّر عليه صفو عمله على استمالة إيران. لذا فقد كانت استراتيجيّته التي اعتمدت على الغضب الإنشائيّ والمفرقعات الصّوتيّة فارغة من أيّ مضمون. أمّا إدارة ترامب، وبفضل جهود فريقٍ موهوب في وزارة الخارجيّة وسفيرٍ قدير، فقد حاولت أن تصل إلى تفاهم مشترك مع أنقرة، وهو أمر ليس بالهيّن لكنّه قد عاد ببعض النّفع ولذلك فهو يستحقّ الاستمرار فيه. ورغم أنّ علاقة واشنطن الثّنائيّة مع المملكة العربيّة السّعوديّة تمرّ اليوم في محنة بسبب الحال الذي آلت إليه القيادة في الرّياض، لكنّها علاقة تستحقّ الحفاظ عليها بالتّأكيد أيضاً. بيد أنّ العلاقة التّناحريّة بين الرّياض وأنقرة تصعّب المهمّة على الأمريكيين لتنسيق السّياسة السّوريّة.
لكن يبقى السّؤال المطروح على المعارضة الخارجيّة هو التّالي: إذا بدأ نظام الأسد بالتّداعي، فهل ستكون مكوّناتها الرّئيسيّة مُجبرةً على أن تعمل كأذرع للسياسات والأولويّات السّعوديّة والتّركيّة؟ وهل سيكون بوسعها أن تخدم مصالح وأولويّات قاطني سوريّا في الدّاخل ولاجئيها في الخارج من الرّياض واسطنبول؟ إذا توصّلت الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف إلى أنّ الجواب هو لا في ظلّ الظّروف الحاليّة، وبأنّه لن يكون بمقدورهم أن يعملوا كمجموعات مستقلّة مهمّتها خدمة السّوريّين، فستصبح الخيارات المتاحة لهم حينئذ واضحة: إمّا أن يحلّوا أنفسهم، أو أن ينتقلوا إلى مكان آخر، أو أن يصيروا تبعاً لغيرهم يأتمرون بأمرهم.
لا ريب أنّ بوسع المملكة العربيّة السّعوديّة وتركيا أن تستبقا هذه الخيارات الصّعبة بإعطاء المعارضة حريّة واسعة للعمل. ولكنّ ذلك يبدو مستبعداً إلى حدّ كبير. فقد بحثت كلّ القوى الإقليميّة المعارضة للأسد عن عملاء متعاونين، وقد حاول كلّ منهم إسقاط الأسد لكن حسب مصالحه الخاصّة، لا كُرمى للسوريّين الذين ينشدون إقامة حكم متحضّر.
وحتّى الولايات المتّحدة نفسها فإنّها قلّما صبّت اهتمامها على مركز ثقل النّزاع: المدنيّون السّوريّون، مختارة بدلاً من ذلك أن تغضّ طرفها عن مجازر النّظام، باستثناء المرّتين، في عهد ترامب، حين ارتكب النّظام مجزرتين مستخدماً غاز السّارين. كما امتنعت واشنطن من العمل مع المعارضة السّوريّة على بناء حكومة بديلة عن الأسد في شمال شرق سوريّا (منطقة الجزيرة السّوريّة). البلدُ الذي حرّر أوروبا مرّتين، ونفّذ خطّة "مارشال" (لإعادة إعمار أوروبا)، والذي انتصر في الحرب الباردة قرّر ببساطة أن مساعدة السّوريّين على بناء حكومة شرعيّة في المناطق المحرّرة من تنظيم "الدولة" هو هدف صعب المنال. فكان أن انتهى الحالُ بمعارضةٍ يعيش معظمها في المنفى، وولاياتٍ متّحدة أميركيّة ما تزال تعترف بمجرم حربٍ على أنّه رئيس لسوريّا.
أمّا المعارضة السّوريّة فقد غلب عليها التّشرذم، الحال الذي يعكس إلى حدّ ما رغبات وإملاءات القوى الإقليميّة التي أعطتها ملجأً تلوذ إليه أو مالاً تنفقه. إلّا أنّ الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف يضمّان بعض الموهوبين من السّوريّين الوطنيّين الذين يعتبرون نظام الأسد والدّمويّين من الإسلاميّين وجهين لعملة واحدة، عملة لا تشتري إلا الانقسامات الطّائفيّة والفوضى. وعلى ما فيها من مثالب إلّا أنّ المعارضة السّوريّة الخارجيّة لم تكن تستحقّ يوماً الاستحقار والاستهزاء الذي يصبّه الأجانب عليها صبّاً سعياً منهم لتغطية فشلهم هُمْ.
لكن إن كان الصّفيح السّياسيّ السّاخن قد بدأ بالتّحرك تحت سوريّا، فإنّ ساعة الامتحان للمعارضة الخارجيّة قد أزفت. فإن كان ولا بدّ لها من الاستمرار في العمل من المنفى، فليكن ذلك بعيداً عن جِوار سوريّا، إن كانت راغبة حقّاً في أن تكون مستقلّة في عملها نيابة عن السّوريّين. فقد يبدو القرب من سوريّا مُغرياً في الظّاهر، لكنّه في حقيقة الأمر سُمّ عاقبته التّبعيّة والعَالَةُ اللذان يُسبّبهما الأسْرُ.
بوسع أوروبّا الغربية أن تكون مقرّاً مؤقّتاً أفضل للمعارضة الخارجيّة من وجودها في أيّ دولة مجاورة لسوريا. كلامي هذا لا يعني أنّ أوروبّا كانت أفضل حالاً من الولايات المتّحدة في حماية السّوريّين، أو حماية جيران سوريّا، أو حتّى في حماية نفسها السّنين العشر الأخيرة. لكن بوسع الاتّحاد الأوروبي أو عدد من أعضائه أن يقدّموا للمعارضة السّوريّة ما لا تستطيع دول الجوار أن تقدّمه: مكاناً يستخدمونه للتخطيط، والمداولة، والعمل نيابة عن السّوريّين بعيداً عن ضغوط المصالح الضيّقة.
إن كانت عُرى النّظام الذي خرّب سوريّا قد بدأت بالتفكّك، فإنّ من واجب المعارضة الخارجيّة أن تنتقل لأمكنة تكون قادرة فيها على التّأثير في مآل المسار السّياسيّ السّوريّ بشكل مستقلّ، فيما فيه مصلحة جميع السّوريّين.
الكاتب: السّفير فريدريك سي هوف هو الدّبلوماسيّ المُقيم في جامعة بارد، والزميل الأقدم المميّز في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في المجلس الأطلسيّ في العاصمة الأمريكية واشنطن.
للاطلاع على المادة الأصلية من المصدر اضغط هنا