أيتام صدام في ضيافة بشار

2021.06.17 | 06:08 دمشق

3.jpg
+A
حجم الخط
-A

حفلت أيام نظام صدام حسين التي سبقت الغزو الأميركي بالزوار، لقد كان واضحاً أن التحالف الذي تم تشكيله لمحاسبة العراق على حيازته أسلحة الدمار الشامل، لن يجمع كل هذه الحشود العسكرية لمجرد الضغط على النظام، وأن الأمور ماضية صوب اجتياح بري قد ينهي وجوده!

حفزت هذه الوقائع غالبية القوى السياسية الإيديولوجية، ومعها مئات من الشخصيات المؤثرة عربياً وعالمياً للتوجه إلى بغداد، فذهب بعضها بشكل مباشر لزيارة صدام حسين وإعلان الوقوف معه، والتقاط الصور التذكارية، بينما فضل آخرون ألا يقترن مسعاهم بلقائه، والتأكيد بدلاً من ذلك على إعلان التضامن مع الشعب العراقي، الذي قاسى وبشكل مركب، ظلم وبؤس العيش تحت سلطة ديكتاتورية وقمعية، وأيضاً حصاراً اقتصادياً، فُرض عليه بحجة محاسبة من يحكمه، الذي لم يتضرر منه، بل جعله فرصة لإذكاء ما كان يدعيه من عقيدة، لـ"مواجهة الرجعية العربية والإمبريالية والصهيونية"!

إلى هذا التاريخ، لم يصدر عن غالبية المرتزقة، باعة المواقف أي توضيحات بخصوص ممالأتهم لديكتاتور قتل شعبه وشرده، بينما استمروا لسنين لاحقة بترديد الشعارات ذاتها

سقط صدام في المحصلة، وتكشفت أوراقه لاحقاً، وظهر منها بما يخص تلك الوفود من المتضامنين، أنه لم يفوت فرصة في شراء المواقف والذمم، حيث اشتهرت قضية كوبونات كان يوزعها يميناً ويساراً على رؤساء حملات التضامن، وعلى المشاركين في وفودهم، ويتم صرفها في مكاتب مختصة في الأردن وغيره، فيتحول الكوبون النفطي (كما كان يسمى) إلى مبالغ من الدولارات، تغذت عليها بعض واجهات الأحزاب القومية العربية، وكذلك اليسارية، ومثلها من بعض التيارات الإسلامية، فصارت لها حسابات في البنوك، وفلل سكنية وشركات في هذه العاصمة أو تلك!

وإلى هذا التاريخ، لم يصدر عن غالبية المرتزقة، باعة المواقف أي توضيحات بخصوص ممالأتهم لديكتاتور قتل شعبه وشرده، بينما استمروا لسنين لاحقة بترديد الشعارات ذاتها، التي كان يستخدمها قادة أنظمة أطاحت بها ثورات الربيع العربي، فظهر أنهم وغيرهم ليسوا سوى جحفل من المتعيّشين على حساب هذه الأنظمة، فإن ذهبت ذهبوا معها.

لكن الواقع عاكس هذه الظنون، إذ إنها ذهبت لكنهم لم يذهبوا، بل تحولوا من داعمين لها، إلى ندابين لزمانها ولوجودها، وفي الوقت نفسه، مهاجمين للثورات متهمين إياها بأنها صنيعة الغرب، وأنها جزء من مؤامرة تشترك فيها الرجعية والصهيونية والإمبريالية، من أجل تكريس السيطرة على الأمة العربية!

ضمن سياق هذه القصة المخزية، يمكن فهم خلفيات زيارة وفد "المؤتمر القومي الإسلامي" الذي يضم رؤساء أحزابٍ ونوابٍ وشخصياتٍ سياسيةٍ ونقابيةٍ من عددٍ من الدول العربية والإسلامية إلى سوريا، ولقائه رأس النظام بشار الأسد، ورغم أن الوضع المتردي لاقتصاد النظام، قد يمنعه من السخاء المادي عليهم، إلا أنه يستطيع أن يقدم جرعة إعلامية جيدة لهم، تزيد في رصيدهم المعنوي المفلس أمام مريديهم، والمعتقدين بأنهم يمثلون تيارات مقاومة سياسية راسخة، فهم يزورون "الشام" بعد إعادة "انتخاب" رأس النظام لولاية رئاسية جديدة وبعد الحرب الأخيرة على غزة.

كان السؤال الذي يتردد دائماً حيال أسباب إدمان هؤلاء على العلاقة مع قتلة وقامعي شعوبهم، من نموذج صدام حسين وحافظ الأسد ومعمر القذافي، رغم أن سجون أنظمتهم وفي سياق فعل اجتثاثهم للسياسة من حيوات مجتمعاتهم، احتوت أفراداً وقادة من كل الأحزاب السياسية (قومي أو ليبرالي أو يساري أو ديني).

فهل كانوا يذهبون وراء المال السياسي فقط؟

يمكن اعتبار الأعطيات والجعالات سبباً، لكن بعضاً آخر منهم لا يمكن التشكيك بذممهم بسبب تاريخهم السياسي، بل يمكن بدلاً من ذلك التمحيص بآليات تفكيرهم، ومحاولاتهم العقلية تبرير الإخفاق البنيوي لأفكارهم السياسية في قيادة الأمة إلى انتصارها ورفاهها، وإحالته إلى المؤامرات الكونية.

وفي الوقت نفسه ثمة سبب آخر هو عدم معالجة أمراض نفسية قد تصيب المشتغلين في الشأن العام من مثل هذه النوعية، كمرض الإنكار الذي يجعلهم يؤيدون طغاة، ما تزال دماء رفاقهم (من الاتجاهات السياسية ذاتها) واضحة على أياديهم!

وطبعاً لا يخفى أيضاً أن توسل الحماية والخوف من المستقبل، يجعلهم يحتشدون كقطيع، يضم أمثالهم، الذين يتوزعون جغرافياً، ليس فقط في المنطقة العربية، بل حول العالم، في المهاجر القريبة والبعيدة، وقد يفسر هذا ظهورهم كمجموع حاشد وكبير، لكنه في الحقيقة لن يقدم تبريراً لهزائمهم التاريخية، التي يتوسلون الجمهور نسيانها!

وضمن هذا المسار يصبح لحضورهم في الشرق العربي وظيفة هي تهنئة المقاومة والممانعة على الانتصار الذي حصل في سوريا وغزة.

إنهم يطابقون بين فضائين مختلفين بشكل ميكانيكي، فيضعون الأسد وحماس وحزب الله وإيران وروسيا في جبهة واحدة، مقابل إسرائيل والرجعية الخليجية والإخوان المسلمين والإمبريالية والثائرين على النظام السوري، ثم يرتاحون من البحث في التفاصيل، التي قد توجعهم رؤوسهم، وربما تكشف عطباً أو عوراً في آليات تفكيرهم، فهم يتبنون خطاب الإعلام الرسمي السوري الذي كان يبرر هجوم جيش النظام وحلفائه على مناطق خرجت عن سيطرته، بعد كل غارة إسرائيلية على مواقعه، بأنه يرد على "صهاينة الداخل"، وعملاء إسرائيل من "إرهابيين وخونة"!

يعرفون ضمنياً أنهم سينالون من العار الكثير، فيتوارون وراء القومية والإسلام، ويحاولون في اللقاءات الإعلامية ألا تظهر وجوههم، كما تغفل الأخبار أسماءهم

فهل سيعثرون على جدار يحمي توجهاتهم وعقولهم الضحلة، أفضل من إعلام نظام جرد كل مقدراته، على هامش مذابحه بحق السوريين، لتكريس سردية تناسبهم كهذه؟!

الجُعالات التي يطمح هؤلاء للحصول عليها، مادية أو معنوية، تقودهم إلى ابتذال أنفسهم، وهم يعرفون ضمنياً أنهم سينالون من العار الكثير، فيتوارون وراء القومية والإسلام، ويحاولون في اللقاءات الإعلامية ألا تظهر وجوههم، كما تغفل الأخبار أسماءهم، ولكن كيف سيخفون بينهم وبين أنفسهم شراكتهم الفكرية مع قتلة، ألن تذكّرهم أياديهم أنها قد صافحت أشد المجرمين فتكاً بالشعوب؟