أوهام موسكو وحقيقة القضية السورية

2020.11.15 | 23:01 دمشق

arton2677.jpg
+A
حجم الخط
-A

يعكس سلوك روسيا تجاه القضية السورية هاجساً يدفعها لتقديم نفسها بأنها الأكثر حرصاً على تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بسوريا عسكرياً وسياسياً وإنسانياً. فتراها تتفاخر بإيجاد مسار "أستانا" لوقف إطلاق النار، وبمؤتمر "سوتشي" لتنفيذ الشق السياسي من القرار 2254، وفِي الجانب الإنساني، تعقد مؤخراً مؤتمراً في دمشق لإعادة السوريين إلى بلدهم.

مع انخفاض منسوب القتل والتدمير والتشريد، وانحسار حجة الإرهاب، التي أسبغها القَتَلَة والمستبدون على ثورة سوريا؛ ومع الإجماع العالمي على الحل السياسي، واقتناع قوى الأمر الواقع المسيطرة على الأوصال السورية المبعثرة، ومع إفلاس تحالف الاحتلال الأسدي- الخامينئي- البوتيني في حسم الأمور لصالحه؛ ومع اقتناعه المر بأنه ما من مخرج من أزمته وحالته المستعصية إلا بحل سياسي سعوا لتوليده قيصرياً عبر دستور "أستانا" أولاً ثم "سوتشي" تالياً عبر محاولات مستميتة لتعطيل مسار "جنيف" دائماً؛ ومع تدهور الحال الاقتصادي الداخلي السوري مرفقاً بتفلت أمني وضياعٍ لهيبة الأسدية التي تعطي البوتينية والخامينائية شرعية الوجود في سوريا... مع كل ذلك تستمر روسيا بعلك الصوف الممزوج بالدم والدمار السوري محاولة تفصيل "حل سياسي" على مقاس مصالحها حصراً مستخدمة ضعف وتدهور نظام الاستبداد الأسدي والنقمة على الوجود الإيراني.

من هنا عادت موسكو إلى أحد البنود الإنسانية والسياسية في القرار الدولي، وخرجت بفكرة عقد مؤتمر لإعادة اللاجئين السوريين، غير متّعظة بـفشل "مؤتمر سوتشي للشعوب السورية" الذي اجتزأ الحل السياسي الشامل في القرار 2254 بتشكيل لجنة دستورية أرادت روسيا أن تكون مرجعيتها واضعة نفسها بديلاً للأمم المتحدة صاحبة القرار؛ لتعود الأخيرة وتقمع تفردها، ولتكون المرجعية. وها هو مؤتمر اللاجئين يفشل أمام أعينها. فكما دأبت على عرقلة عمل الدستورية سراً، لعدم امتلاكها كلياً، ولخروجها من يدها، ستعمل على عرقلة أي عودة حرة كريمة للاجئين السوريين إلى بلدهم.

من كل هذا يستخلص المرء جملة من الإشارات؛ إما أن سياسة موسكو في /الخارجية/ أو /الدفاع/ مربكة غبية خبيثة سطحية تكتيكية؛ أو أنها تتصرف عن وعي وإدراك وحصافة لتسجل

مع تكرار "الفشل" أكثر من مرة، ربما تكون عين موسكو على عنصر آخر في القرار الدولي، لتجهضه- وتحديداً "الانتخابات"

نقاط في مقاربة تطبيقية للقرار الدولي 2254، دون الدخول الحقيقي في جوهره مستفيدة من "مطاطيته" ومن غياب قوى فاعلة لفرضه. ومن هنا كل محاولاتها ابتداءً من "أستانا" إلى "سوتشي" وصولاً إلى "دمشق" في تفريغ القرار الدولي من مضامينه الجوهرية.

الآن، ومع تكرار "الفشل" أكثر من مرة، ربما تكون عين موسكو على عنصر آخر في القرار الدولي، لتجهضه- وتحديداً "الانتخابات". وبهذا تكون قد قاربت مسألة /وقف إطلاق النار/ بتشويهها وتحويلها إلى "خفض تصعيد"؛ و/الانتقال السياسي/ بتقزيمه إلى "لجنة دستورية" و"عودة لاجئين" ثم "انتخابات رئاسية" لذر الرماد في عيون الغضب السورية؛ وبذا تدفن القضية السورية والحق الشرعي في استعادة السوريين لبلدهم، وكأن شيئاً لم يكن...

ما يعطي دلالة على دقة تصوير المقاربة الروسية بأنها هكذا، هو أنها بالأمس أعطت الضوء الأخضر للمبعوث الدولي للإعلان عن جولتين، وليس واحدة لانعقاد اللجنة الدستورية (واحدة هذا الشهر وثانية في الشهر الأول من العام القادم) حتى تبقي اللعبة مستمرة. والمفارقة أن ذلك يأتي بعد أن رفض النظام علنياً اللجنة، واعتبرها "لعبة"؛ لكن الضغط الموسكوفي، والإغراء بانتخابات رئاسية "تشرعن" النظام، ولّد موافقة عند منظومة الاستبداد الأسدية.

ليعلم السيد بوتين أنه حتى لو وصلنا إلى "الانتخابات الرئاسية"، فلن يكون مَن يريد شرعنته أو إعادة تكراره شرعياً، تماماً كحال "مجلس الشعب" الذي تم تعيينه. معظم السوريين رافضون لذلك، وكذلك المجتمع الدولي وقراراته بخصوص سوريا، تماماً كما يرفضون عودة اللاجئين، أو إعادة الإعمار، أو إغفال ملفات الإجرام المتراكمة، أو مناطق خفض التصعيد التي أجهضت وقفاً شاملاً لإطلاق النار، أو الضحك على السوريين في "مناقشات للدستور". الحلول التكتيكية الترقيعية ليست تطبيقاً للقرارات الدولية، ولن تشرعن نظاماً قاتلاً، ولن تنقذ سوريا التي تدهورت اقتصادياً واجتماعياً ونفسياً.

ينقذ سوريا فهم حقيقي لجوهر الصراع فيها؛ للمرة المليون، سيد بوتين، ليس صراعاً بين /معارضة/ و/نظام/ بل صراعاً بين الحرية والديموقراطية والكرامة والحياة من جانب، والاستبداد والذل والموت من جانب آخر. إنه صراع يتسلح السوريون فيه بقرارات دولية تنصفهم، وبإرادة لا تموت.

قد يغري السيد بوتين أن هذا الحق السوري لا يجد من يتمترس عنده بقوة وصلابة وانتظام، وقد يغريه التناقضات والمصالح الدولية المتضاربة، وقد يكبّر رأسه امتلاكه لقوة عسكرية- طالما تفاخر بفاعليتها في الساحة السورية- وقد يتوهم أن المسألة السورية لا تحتل أولوية في السياسات الدولية؛ ولكن عليه أن يتيقّن أن هناك من يتمترس عند جمر القضية السورية، وأن الدول تسجّل عليه سقطاته، وخاصة حمايته للإجرام عبر "فيتو" مجلس الأمن، ولا هي ستشبعه اقتصادياً في إعمار ما خرّبه في سوريا، وإعادة من شردهم بصحبة الأسدية والخامينائية سيعودون؛ والأهم من كل ذلك، ليعلم أن ثورة السوريين مستمرة، وأن النخب والقوى السورية التي تغلي على مدار الساعة، و بالتكاتف ومراجعة الحسابات مع مؤسسات معارضة قائمة؛ وبالتنسيق مع قوى تريد عودة حرة كريمة لسوريا وشعبها إلى الحياة، على وشك الخروج بجسد قوي عفيّ صادق راشد يحرص ويعمل على استعادة بلده من الاستبداد والاحتلال.