أوهام الخطيئة والخلاص

2020.08.29 | 00:08 دمشق

960498912-1.jpg
+A
حجم الخط
-A

لكل زمان أوهامُهُ التي يبتدعها أناسٌ وصلوا إلى حافّة اليأس، بعد نضالٍ مريرٍ لا جدوى منه، أو أناسٌ ارتاحوا إلى الكسل، وآثروا أن يعلّقوا أخطاءَهم على مشاجب الآخرين، أو أرادوا أن يحمّلوا أوزارهم إلى من يتوهّمون أنّه يخلّصهم من الآثام التي اقترفوها.

وقد تساهم فئةٌ ما، خدمةً لمصالحها، في ابتكار طرائقَ تُوهمُ النّاسَ بأهميّة أن تفكّرَ عنهم، وتتحمّلَ العبءْ رأفةً بهم وحُبّاً بالإنسانية. ومن هؤلاء بعضُ السّاسة أو المثقّفين أو رجال الدين الّذين يمتطون صهواتِ الخيال، ويتوسّلون سذاجةَ بعض المريدين أو الأتباع، ويجعلون منهم إمّعات، أي تابعين يقولون للمرشد إننا معك، ويردّدون ما يطلبُ إليهم ترديدَه.

إن مثل هذه الأوهام ليست جديدة، وإنّما نشأت لدى الإنسان مع بَدءِ الحضارة الإنسانيّة وهو يجابه تحدّيات الطبيعةِ من حوله.

في لحظات الضعف يستسلمُ المرءُ ويمنحُ قيادَهُ لقوىً خارجية، كما لو كانت تملك القدرةَ المطلقة على تدبير شؤونِهِ على أحسن ما يرام، أو وكأنّها تضمن له حُسْنَ الختام.. بدونِ ضرائب.

 وفي قديم الزمان، نشأت في بلاد الفرس فكرةٌ كان لها أثر كبير في الديانات اللاحقة، فمنذ القرن الرابع قبل الميلاد آمن الفرس بفكرةِ المخلّص الذي سيعود إلى العالم لينقذَ البشرَ من الشرّ والظلم. و (ميترا) منظِّمُ الكون ومنقذُه، تحت إمرةِ الزَّمان، سيعودُ يوماً ليضرمَ ناراً تلتهمُ الكون، ويطهِّرَ العالَم من أدرانه، ويبدِّدَ الظلام.

وهذا المخلّص الذي ابتدعه الإنسان منذ القديم لبّى حاجةً أساسيّةً لديه، وهي الرّغبةُ في استحضار حالةٍ تتحقّقُ فيها رغائبُهُ وميولُه. وبما أنَّ الواقعَ المرير، والصراعاتِ التي تحدث بين بني البشر، والمصالحَ المتضاربة؛ تحولُ دون تجسيد الإنسان لأحلامه عمليّاً، فيلجأ إلى عالمٍ غير العالم الذي يعيش فيه بحثاً عن السّعادةِ المنشودة، والعزاء المبتَغى. تعتقد بعضُ المذاهب أنّ الإنسانَ كان في الجنّة هانئاً ناعماً، لكنّ إلحاحَ الفضول، وحبَّ المعرفة، دفعاه إلى اقتراف ذنبٍ أضاع عليه فرصةَ البقاء في العالم العلوي الهادئ، وتحَتَّم عليه أن يَحُثَّ الخُطا، ويواصل السعيَ كي يفوزَ باستحقاقِ العودةِ إلى الفِردوس المفقود.

لكنَّ مذاهبَ أخرى تظنُّ أنّ العالَم المنشود يمكنُ أن يُدرَكَ عند مجيء مخلِّصٍ يملأُ الكونَ عدلاً ورحمة. ومن هنا نشأت دياناتُ الخلاص مثل ديانة (ميترا) التي أخذت فكرة المخلِّص من المزدكيّة، وجعلت (ميترا) المنقذَ الذي سيعودُ يوماً ما إلى العالم، فيبعث الموتى ويُجري الدينونة ويصنعُ الخلود.

وكذلك فعل (ماني) بعد ميلاد المسيح بمئتي عام، حيث قضى حياتَه يبشّر بدين جديد ويحاربُ المجوس. ادّعى (ماني) أنّه المسيحُ الثّاني الذي وعد به يسوع، وأنّه جاء العالم (بديانةِ الخلاص).

لقد حَلُمَ النّاسُ بالخلاصِ من شقائهم، ولم يجدوا أمامهم سوى المخلِّص الذي تزداد الحاجةُ إليه كلّما طغى الشّر وعجزت إمكاناتُ الطبيعة الإنسانية عن التخلّص منه. لذلك اتّخذت بعضُ الشعوبِ إلهاً مخلّصاً، واتّخذت شعوبٌ أخرى نبيّاً أو فيلسوفاً، أو رئيساً للمدينة الفاضلة كما فعل أفلاطون والفارابي.

وقد يتصوّر الناس المخلِّص إلهاً تجسّد في إنسان، كالمسيح عند النصارى، والإمام المهدي وقائم القيامة عند بعض غلاة الشيعة.

نشأت المسيحية وترعرعت في ظلّ فكرة المخلّص التي تأصّلت في النفوس وعندما امتدّ الفتح الإسلامي، وانتشر الإسلام، خارج الجزيرة العربية، اعتنقته شعوبٌ فارسية وسورية ومصرية، لها معتقداتٌ وتراثٌ وحضارة لم تتخلَّ عنها، فاختلط عليها الأمر وظنّت بالإسلام ما ليس فيه، ممّا أدّى إلى وجود فرق واتّجاهات مختلفة. ونجد في الفكر الهندي اعتقاداً تتردّد أصداؤه في الديانات الأخرى.

ويذهب هذا الاعتقاد إلى أن كلّ بوذا - وهم خمسة - يتجسّم بحيث يهيّئ الشروط الزمانية والمكانية لإحداث بوذا على الأرض. وعندما تتجمّع الشروط التاريخية الكافية، يتّخذ البوذا شكلاً بشريّاً ويصبح مخلّص العالم. لكنّ هذا لا يتمّ إلاّ عندما ينتشر الشر والظلم. ولا شك أن هذا الاعتقاد يذكّرنا بالمخلّص المنتظر أي المسيح الذي ما يزال اليهود ينتظرون مجيئه. كما يذكّرنا باعتقاد النصارى الذين يأملون أن يعود المسيح في آخر الزمان ليوقف أعمالَ المسيح الدجّال.

ومن عقائد الشيعة البارزة الاعتقاد بالمهدي. وكلمة المهدي اسم مفعول من هَدى، يقال: هداه الله الطريق، أي عرّفه إيّاه ودلّه عليه وبيّنه له فهو مهدي. ولم ترد كلمة المهدي في القرآن الكريم، وإنما وردت المهتدي "من يَهْدِ اللهُ فهو المهتد" وورد الهادي " ولكلّ قومٍ هاد " وقد ورد في شعر حسّان بن ثابت في وصف النبي الكريم بالمهتدي يقول:

بأبي وأمي من شهدتُ وفاتَه   في يوم الاثنين النبيّ المهتدي

ووصفه بالهادي:

بالله ما حملتْ أنثى ولا وضعـتْ      مثلَ النبيّ رسولَ الرحمةِ الهادي

ووصفه أيضاً بالمهدي في قوله يرثيه:

ما بالُ عيني لا تنـامُ كأنّمـــا   كُحِلَت مآقيها بكحلِ الأرمَـــدِ

جَزِعاً على المهديّ أُصبحُ ثاوياً   يا خيرَ من وطئَ الحصا لا تبعـدِ

وقد وردت في بعض الأحاديث الشريفة كلمة المهدي وهي في كل ذلك بمعناها اللغوي الديني رجل هداه الله فاهتدى. لكنها، فيما بعد، أخذت معنًى جديداً وهو إمام منتظر يأتي فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً. وأول من أطلقها بهذا المعنى ما زعمه كيسان مولى علي بن أبي طالب في محمد بن الحنفية، فقد زعم كيسان إمامة محمد بن الحنفية وأنه مقيم في جبل رضوى. وقد مات ابن الحنفية سنة إحدى وثمانين للهجرة ودُفن بالبقيع، ولكنْ لم يشأ الكيسانية أن يؤمنوا بموته وقالوا بغيبته وبانتظاره حتى يعود، وكان هذا أساساً لفكرة الإمام المنتظر عند الإمامية الاثنا عشريّة.

وهذه العقيدة برجوع الإمام بعد غيبته هي المسماة في عرف الشيعة بالرجعة.

وقد انتشرت فكرة المهدي المنتظر في العصر الأموي، وكان لبعض الأمويين مهدياً آخر يُلقّب بالسفياني.

ومن طرائف ما حدث حول فكرة المهدي أنّه لمّا قال الشيعة بالمهدي وقال بعضُ الأمويين بالسفياني، وضع الشيعة الأحاديث بأن المهدي إذا خرج سيقابل السفياني إذا خرج، وسيبايع الناس المهدي يومئذ بمكة بين الركن والمقام، ثم إن المهدي يقول: أيها الناس اخرجوا إلى قتال عدوّ الله وعدوكم فيجيبونه ولا يعصون له أمراً، فيخرج المهدي ومن معه من المسلمين من مكة إلى الشام لمحاربة عروة بن عمر السفياني ومن معه …".

ويبدو أن العباسيين عزّ عليهم أن يكون للشيعة مهدي وللأمويين سفياني وليس لهم شيء، فأنشؤوا لهم مهدياً أيضاً ووضعوا له الأحاديث.

ولعلّ انتشار خبر المهدي حمل المنصور على تسمية ابنه المهدي والإيهام بأنّه المهدي المنتظر.

وقد أُحيطت شخصيّة المهدي بجوّ غريب من التنبؤات والإخبار بالغيب وبحوادث الزمان إلى يوم القيامة، مما مهّد الطريق أن يخرج، بين فترة وأخرى، من بين الناس من يدّعي أنه المهدي المنتظر.

وقد استفادت الصوفية من فكرة المهدي وصاغته من جديد وسمّته (قطباً)، وهو الذي يدبّر الأمر في كل عصر، وهو عماد السماء ولولاه لوقعت على الأرض. ويلي القطبَ النجباءُ الاثنا عشر الذين يعلمون ما لا نعلم، كما يقول ابن عربي في الفتوحات المكيّة.

نقف لحظةً للتأمّل لنرى أن ما يهمّنا الآن هو التخلّص من الفكرة الاستسلامية التي تدعونا إلى إهمال شؤوننا والاتّكاء على مخلّص يتحمّل عنا أوزارَنا أو يفكّر عنا فيما يجب علينا أن نفكّر فيه.

تلك الفكرةُ التي تلبس ألفاظاً متنوعة، كلما كُشف وهمُ لفظٍ منها ابتدعتْ سواه، وهكذا تنقّلت من المخلّص إلى المهدي إلى القطب إلى الغوث إلى الرجعة وسواها.

وعموماً لا يزال هناك شعور بالحرمان. وأن التمتّعَ بالحياة خطيئة وأن الإنسان لا يستطيع أن يخلّص نفسه إلاّ بمساعدة قوّة خارجيّة عظمى. وما زالت عقيدة الخطيئة هي الفرضية الأساسية في المسيحية، ويرى أصحابُها أنّ خلاصَ الإنسان إنّما يكمن في التحوّل إلى المسيحية لينعم بالخلاص عبر المسيح المخلّص الذي يتحمّل عنّا خطايانا.

هذا في حين كان العالم الوثني الإغريقي يصوّر الآلهة على هيئة بشر، يمكنه أن يمرحَ معهم بدون أن يشعر بالخطيئة.

وإذا فكّرنا في أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تكون شرّاً خالصاً بتكوينها، فإنّنا ننعم بحياة هانئة، لأن الله لا يمكن أن يعاقبَنا على مجرّد وجودنا في هذا العالم وكل ما علينا أن نفعلَهُ هو أن نكونَ معقولين في اتّجاهات عواطفنا وفي تصريف غرائزنا أو الامتثال إليها بخفّة ولطف بدون كبت أو مغالاة. ونحن لو أننا مارسنا حياتَنا بشكل لا يدعونا إلى الخجل من أولادنا أو أحفادنا حين يطّلعون على يومياتنا، نكون مرتاحي الضمير الذي يعدّه (لين يوتانج) أعظمَ النّعَمْ.

فلماذا ننصرف عن الله إلى سواه من أجل خلاصنا ونحن نعلم أنه {وفوق كلّ ذي علم عليم}. ونعي قولَهُ تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه، يعلم ما بين أيدهم، وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاّ بما شاء}..

ونعلم بأنّه لا تثريب علينا من ممارسة حياتنا اليومية بضمير مرتاح لأنّنا نذكر قولَهُ تعالى: {وابتغِ فيما آتاك اللهُ الّدارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبَك من الدنيا}. صدق الله العظيم.