أوقفوا التحريض ضد كل من يفكر خارج الصندوق

2020.01.21 | 23:13 دمشق

580-31.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما إن هدأت العواصف الهوجاء التي اندلعت بعد وفاة الباحث في التراث الإسلامي محمد شحرور، حتى بدأت بقراءة سريعة لأبرز مؤلفات الشحرور، كي أرى بعيني وأحكم بعقلي على ما قال، فأنا رغم أنه كان ضيفاً على عدة قنوات خليجية لكنه لم يثر انتباهي، أو لم ترق لي كاريزمته، رحمه الله، مع أني مهتم بالمراجعات الفكرية، وأرى أننا أحوج ما نكون إليها في هذه الأيام، لا لشيء سوى كي نستطيع السير في ركب الأمم المتحضرة، فكل الأمم تسير إلى الأمام إلا نحن العرب نسير إلى الخلف، وكلما حاولنا الخروج من الحفرة ازداد نزولنا إلى قعرها، وغرقنا في طينها وأوحالها.

لقد اختتمت موسمي القرائي للعام الماضي بالشحرور، فقرأت له عدة كتب، وكلها لا تخرج عن المنهج الذي اختطه الرجل لنفسه في باكورة كتبه (الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة) الذي صدر عام 1990 من القرن المنصرم، وفيه يحاول الشحرور إعادة شرح القرآن الكريم بطريقة معاصرة تتماشى مع العصر الحديث، عن طريق تفسير القرآن تفسيراً جديداً باستخدام أساليب اللغة العربية، والبحث في الجذر اللغوي للكلمات حتى يصل إلى فهم قريب في وقتنا الحاضر. وفي هذا التفسير ابتعد كل البعد عن المراجع التفسيرية، ولا حتى استئناساً، بل حتى ألغى كثيرا من أحكام الهوية الثقافية، والخصوصية الشخصية للإسلام.

قرأت في هذا الكتاب العديد من الآراء الشاذة، بل والغريبة

أغلب الذامين والمادحين للشحرور لم يقرؤوا له شيئاً، ما خلا منشورات الفيسبوك، وبعض المقاطع المقتطعة من لقاءات أجراها الرجل، وإنما انطلقوا بناءً على رغبات مسبقة

العجيبة في آن معاً، منها مثلاً أن عورة المرأة حسب تفسيره للآية "وليضربن بخمرهن على جيوبهن" هي ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والإليتين"، فضلاً عن أنه يجوز للمرأة أن تخرج عارية تماماً من الثياب أمام محارمها!

أنا عندي اعتقاد أن أغلب الذامين والمادحين للشحرور لم يقرؤوا له شيئاً، ما خلا منشورات الفيسبوك، وبعض المقاطع المقتطعة من لقاءات أجراها الرجل، وإنما انطلقوا بناءً على رغبات مسبقة، فالمادحون رأوا في الشحرور محاولة للخروج على النص، وبالتالي ردم الهوة بيننا وبين المجتمعات المعاصرة، رغم أن البعض منهم ملحدون وبالتالي لا يعنيهم هذا النص لا من قريب ولا من بعيد! لا يخفى أن بعض المدافعين انطلق من تموضعه على خريطة الاستقطابات العربية التي باتت تزيدنا تشرذماً فوق تشرذمنا.

أما المهاجمون، وما أكثرهم، فانطلقوا من قاعدة تقديسهم للنص الصالح لكل زمان ومكان، دون أي تعديل أو تجديد أو اجتهاد، وبعضهم هاجم الشحرور فقط لأنه كان يقيم في دولة الإمارات، دون أي قراءة له، ولو أنه كان يقيم في دولة أخرى لما شنوا ضده- ربما- كل هذه الحملة الشعواء.

يقول الشحرور في كتابه (الدولة والمجتمع) عند حديثه عن الاستبداد الفكري في المجتمعات العربية "لقد تم تسليط سيف السلف على كل فكر حر نقدي إبداعي، فجمدت عقول الناس بالقهر، ترغيباً تارة وترهيباً تارة أخرى، وتم استغلال عواطف المسلمين في حبهم لله ورسوله أسوأ استغلال، واندفع المسلمون للقتال والدفاع عن جهلهم تحت شعار حب الله ورسوله".

نعم هذا ما جرى بالضبط، فمن هذا المنطلق كانت الحملات يتم تجييشها ضد الشحرور، مشحونة بكم هائل من التكفير، بل البعض حتى من الصحفيين حمل على عاتقه الدعاء على الراحل الشحرور، وكأن الأخير قد سرق له مال أبيه أو شرده من دياره!

أنا شخصياً لم اقتنع كثيراً بنظرية الشحرور وتفسيراته لآيات الذكر الحكيم، ولكني رأيتها على ما فيها محاولة جادة للتفكير خارج الصندوق، وإيجاد حلول لأمة تعيش تناقضاً بين المقدس والمدنس وبين النص والتطبيق، وبين الماضي والحاضر، وبين الـ نحن والـ غير.

هناك باحثة مصرية اسمها فاطمة حافظ كتبت على صفحتها في الفيسبوك أنها أجرت بحثاً عن الباحثين التجديديين العرب، " وكان أشد ما لفت انتباهي في موضوع شحرور أن نصر حامد أبو زيد قد انتقد الكتاب في مجلة الهلال، ووصفه بأنه قراءة تلوينية إيديولوجية وليست معرفية، واعتبر أنه يسيء إلى القراءة المعاصرة التي لها شروط وضوابط في فكر وممارسة أبو زيد".

الباحثة المصرية أضافت "أن الانتقاد الرئيس لدى أبو زيد أن شحرور يفترض وجود طرفين هما التراث والمعاصرة ويضفي على التراث صفة التحول، أما المعاصرة فهي الثابت لديه، وقد اضطر شحرور أن يرد بدوره، ولكن نقد نصر ليس سهلاً فكتب الشحرور شيئا خائبا كله كلام أجوف. ولم يتابع نصر ويبدو أنه شعر بأن مثل شحرور لا يستحق أكثر من ذلك"، حسبما تقول الباحثة.

نظرية الشحرور، حتى وإن لم يكتب لها النجاح والانتشار، ولكنها بلا شك، ستشجع

حملات اللعن الممنهجة لن تفعل شيئاً سوى ترهيب من فكر أن يبحث عن حلول لأزماتنا المزمنة والمستعصية

آخرين كي يبحثوا عن حلول أخرى من داخل الموروث الثقافي، وقد نصل إلى بغيتنا يوماً ما، فالشحرور الذي دافع بشجاعة عن فكرته- على ما فيها- يجب برأيي أن ننظر له بإكبار، فهو اجتهد فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر، كما جاء في الحديث الشريف.

من حقك أن توافق على فكره أو ترفضه جملة وتفصيلاً، ولكن حملات اللعن الممنهجة لن تفعل شيئاً سوى ترهيب من فكر أن يبحث عن حلول لأزماتنا المزمنة والمستعصية. فتهييج العامة والدهماء ضد المفكرين، عادة قديمة في مجتمعاتنا العربية. لا ننسى ماذا فُعل بابن جرير الطبري، الذي تم تحريض العوام ضده من قبل الحنابلة فحاصروا بيته ورموه بالحجارة، حتى مات في بيته محاصراً، ولكن التاريخ أنصفه.

ثم لماذا كل هذا الخوف من هذه الأصوات التجديدية، أوليس ديننا محفوظاً بحفظ الله لكتابه الكريم، " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".