أوجلان الحالم.. أوجلان الواقعي

2019.05.20 | 00:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أعلن وزير العدل التركي عبد الحليم غل أن منع الزيارات الذي كان مفروضاً على عبد الله أوجلان قد تم إلغاؤه، وسيحصل، من الآن وصاعداً، على حقه في الزيارات الدورية بصورة عادية. كان تحقيق ذلك هو الهدف الذي من أجله أضرب عدد من سجناء حزب الشعوب الديموقراطي عن الطعام، منذ أوقات متفاوتة، أقدمها حالة ليلى غوفن التي بدأت إضرابها عن الطعام منذ شهر كانون الأول الماضي.

وجاء هذا الإعلان بعد فترة من أول زيارة لأوجلان من محاميه، في الثاني من الشهر الحالي، تم الإعلان عن حدوثها في السادس منه مع قراءة رسالة منه ذات مضامين سياسية. كنت ممن حسب حساباً لاحتمال إملاء مضمون الرسالة عليه من السلطة، أو أن نصها خضع لمفاوضات ليخرج بالشكل الذي خرج به. أما وقد فتحت زياراته بصورة منتظمة، فلم يعد لهذا الاحتمال من معنى، بما أنه بات قادراً على التنصل مما جاء في الرسالة "الإشكالية" إذا أراد ذلك. 

ولكن هل يغير هذا من الأمر شيئاً؟ فكما نعرف من تاريخ الرجل منذ اعتقاله، فهو يطلق تصريحاته وتعليماته ورسائله، دائماً، على أساس واقع كونه سجيناً أو أسيراً، وليس كزعيم منظمة حر الإرادة. بكلمات أخرى: كل ما يقوم به أوجلان هو، بطريقة أو بأخرى، بالتنسيق مع ضباط استخبارات الدولة التركية التي تسمح له، لهذا السبب، بإيصال رسائله إلى منظمته أو الرأي العام. وهذا التنسيق تسبقه، على الأرجح، مفاوضات بينه وبينهم، فيطرح مطالبه مقابل تنفيذ مطالبهم. هو، بهذا المعنى، رجل في حالة مفاوضات مستمرة ما لم يوقفها الشريك الاستخباراتي.

واضح من إعلان وزير العدل التركي أن أوجلان استعاد حقه في تلقي الزيارات، بعد انقطاع سنوات، مقابل مضمون رسالته الأخيرة التي خصص جزءاً كبيراً منها لسوريا. وقد وجه إلى المضربين عن الطعام من أجله كلاماً لا يرقى إلى مرتبة الأمر بإنهاء الإضراب، لكنه يفتح الباب أمامهم لهذا الخيار، ربما من باب الحذر والتحوط من احتمال إخلال مفاوضيه بوعودهم بشأن فتح الزيارات، أو ربما هناك وعود أخرى لم تدخل، بعد، حيز التنفيذ.

ولكن هل تشكل هذه الخطوة الحكومية مكسباً لأوجلان فقط، أو لمناصريه المضربين عن الطعام، أم أنه قبلهما معاً مكسب للحكومة الغارقة في مشكلات كبيرة متزامنة تحتاج لمواجهتها إلى شيء من الدعاية الإيجابية، وهي التي تتعرض لانتقادات كبيرة، في الداخل والخارج، بشأن حالة الحريات وحقوق الإنسان، فضلاً عن الوضع الاقتصادي الذي يمضي نحو المجهول، والضغوط السياسية الكبيرة من الروس والأميركيين.. إلى آخر سلسلة الاستحقاقات الداهمة التي تواجهها الحكومة؟

شكلت رسالة أوجلان اختراقاً غير متوقع للتوازنات السياسية الداخلية الحرجة في أعقاب الانتخابات البلدية التي أنتجت لوحة سياسية جديدة غير مريحة للحزب الحاكم

أكثر من ذلك: شكلت رسالة أوجلان اختراقاً غير متوقع للتوازنات السياسية الداخلية الحرجة في أعقاب الانتخابات البلدية التي أنتجت لوحة سياسية جديدة غير مريحة للحزب الحاكم. فخسارة بلديات المدن الكبرى الرئيسية، وبخاصة إسطنبول وأنقرة، لمصلحة مرشحي المعارضة، قد أطلقت صفارات الإنذار لدى الحكم بانقلاب التوازنات القارة منذ عقدين تقريباً لغير مصلحته، ومن هنا كان إصراره على استصدار قرار بإلغاء نتائج انتخاب رئيس بلدية إسطنبول، وإعادتها في شهر حزيران القادم. لكن من المحتمل أن هذا الاندفاع المتهور قد يزيد الأمور سوءاً بالنسبة للحزب الحاكم، بصرف النظر عن نتيجة انتخابات الإعادة، وبخاصة إذا فاز فيها مرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو مرة أخرى.

يدرك الرئيس أردوغان خطورة هذا الوضع، ولذلك فقد ترك الباب مفتوحاً لتغييرات تكتيكية قد يلجأ إليها في الفترة القادمة تفادياً لمزيد من الخسائر. من ذلك احتمال فك تحالفه المربك مع حزب الحركة القومية المتشدد بزعامة دولت بهجلي، وهذا ما ألمح إليه حين تحدث عن "تحالف تركيا" الذي ينطوي على معنى التخلص من "تحالف الجمهور" الذي يجمعه ببهجلي. لذلك كان رد فعل هذا الأخير على عبارة "تحالف تركيا" فورياً وقاسياً. صحيح أن أردوغان لم يعد إلى استخدام التعبير المذكور مرة أخرى، لكنه فاجأ الرأي العام بزيارة المحامين لأوجلان وبرسالته الداعية، بصورة خاصة، إلى "مراعاة الهواجس التركية" في شمال سوريا، وتأكيده على "وحدة الأراضي السورية" بما يستجيب تماماً لمطالب الحكومة التركية من الأميركيين بشأن شرقي نهر الفرات.

ربما قدم المفاوض التركي للسجين أوجلان وعوداً سياسية تتجاوز مجرد السماح بزيارته، لا يمكننا التكهن بها في اللحظة الراهنة. لكن الحكومة لم تطلق أي مبادرات، إلى الآن، فيما خص المسألة الكردية في تركيا، بل إن أردوغان بالذات نفى أن يكون هناك أي عودة إلى مسار السلام المنقطع على جدول الأعمال. هذا مفهوم بالنظر إلى علاقة التحالف القائمة مع دولت بهجلي وحزبه، وأردوغان بأمس الحاجة إلى مساهمة هذا الحزب لمصلحة مرشح العدالة والتنمية بن علي يلدرم في انتخابات الإعادة في إسطنبول. يمكن القول، إذن، إن هذا التحالف مستمر حتى 23 حزيران القادم على الأقل، على رغم تبرم أردوغان وبعض قواعد "العدالة والتنمية" من هذا التحالف الذي كان رابحاً لـ"الحركة القومية" وخاسراً لـ"العدالة والتنمية".

قال جملته الأولى التي ستحدد الإطار العام لكل عمله اللاحق: "أنا مستعد لخدمة الدولة التركية"

رسالة أوجلان، إلى ذلك، مناسبة جديدة للمقارنة بين أفكاره الطوباوية بشأن "المجتمع الديموقراطي" و"الإدارة الذاتية الديموقراطية" و"كونفيدرالية الشرق الأوسط" ومسالكه الواقعية في السجن. فالرجل الذي أفاق من التخدير، في الطائرة التي نقلته إلى السجن، قال جملته الأولى التي ستحدد الإطار العام لكل عمله اللاحق: "أنا مستعد لخدمة الدولة التركية". ثم جلس في عزلته، بعد تأكده من الخلاص من عقوبة الإعدام، يكتب مجلدات عن "حضارة ما بين النهرين" والإدارة الذاتية الديموقراطية والمساواة بين الرجال والنساء والشؤون الإيكولوجية وتجاوز الإيديولوجيا القومية إلى "وحدة جميع شعوب المنطقة" في إطار كونفيدرالي ديموقراطي.. إلى آخر ما هنالك من تهويمات في الزمن الدائري المديد الخاص بالسجن المؤبد. 

لعب حزب الشعوب الديموقراطي دوراً مرجحاً في فوز مرشحي المعارضة في بلديتي أنقرة وإسطنبول. يراهن أردوغان، في لعبه ورقة أوجلان مجدداً، على كسب بعض أصوات الناخبين الكرد في إسطنبول، أو على الأقل انحسار حماستهم في الذهاب إلى صناديق الاقتراع للتصويت لمصلحة إمام أوغلو. أعلن الحزب، بعد نشر رسالة أوجلان، استمراره في دعم إمام أوغلو في انتخابات الإعادة. لكن هذا قد لا يكفي لحث الناخبين الكرد على المشاركة بكثافة، وبخاصة أن موقفهم من حزب الشعب الجمهوري غير ودي أصلاً بسبب تاريخ هذا الحزب في مقاربته الشوفينية للمسألة الكردية. وكانت مشاركتهم في التصويت لمصلحة إمام أوغلو، في آذار، فقط من باب مواجهة مرشح "العدالة والتنمية" لضمان خسارته.

انفتحت الزيارات، إذن، إلى سجن جزيرة إمرالي. سنسمع، في الفترة القادمة، كلاماً كثيراً من أوجلان.