أهمية الكتابة في عصر العمل عن بعد

عززت الجائحة كل أشكال التواصل الرقمي، حيث شاع الاعتماد على منصات الاجتماعات عبر الفيديو، كما أصبح أصحاب الأموال في المشاريع يخاطرون بأموالهم ويدخلون صفقات بعد مشاهدة الإعلانات الافتراضية، وساعدت منتجات مثل منصة Loom و mmhmm الموظفين على إرسال رسائل مصورة مسجلة سلفاً إلى زملائهم في العمل. كما أن أكثر من ثلث مستخدمي تطبيق Slack صاروا اليوم "يجتمعون ويثرثرون" كل أسبوع، وذلك عبر الاستعانة بالميزة الصوتية الجديدة لهذا المنتج والتي تعتمد على تبادل الحوار والأحاديث بين الأشخاص. وقد حدث كل ذلك قبل أن يحول فضاء العالم الافتراضي الجميع إلى مجرد أيقونات لأشخاص.

إن مكان العمل الذي يحكمه الوقت الظاهر على الشاشات لا بد أن يفضل أحدث وأسرع الطرق وأكثرها افتراضية لنقل المعلومات. ولكن الشكل القديم للتواصل، أي الكتابة، ازدهر هو الآخر، ولا نعني بذلك الرسائل الإلكترونية والمدخلات التي يتم إرسالها على فترات متقطعة وتجري كتابتها على ألواح رقمية بيضاء، بل إن ما نقصده هو طريقة الكتابة البطيئة التي تستغرق وقتاً. أي أن نقاط قوة الكلمة المكتوبة لم تتقلص في زمن الجائحة، بل لعلها أصبحت الأنسب لهذا الزمن في كثير من الحالات.

تعتبر قيمة الكتابة ركيزة أساسية في التفكير الإداري، إذ يرى لي إياكوكا عملاق صناعة السيارات في أميركا بأن "مجال كتابة وتدوين شيء ما على ورق يعتبر الخطوة الأولى نحو تحقيقه"، أما جيف بيزوس فقد منع استخدام شرائح العرض في الاجتماعات التي يلتقي فيها أرفع المديرين التنفيذيين لدى شركة أمازون، وذلك منذ عام 2004، والهدف من ذلك دفعهم لاستخدام مذكرات منظمة بشكل جيد، إذ كتب عن ذلك فقال: "إن العروض التقديمية بطريقة باوربوينت تسمح بتلميع الأفكار وجعلها براقة".

وهنالك بعض المديرين التنفيذيين الذين يكتبون لأنفسهم، مثل آندرو بوزوورث أحد كبار الموظفين لدى شركة ميتا (فيس بوك سابقاً)، والذي كانت لديه مدونة يفكر من خلالها بالكثير من المواضيع بشكل مثير للاهتمام، وتشمل تلك المواضيع الكتابة بحد ذاتها، حيث كتب: "من خلال تجربتي، وجدت بأن النقاش يوسع مجال الاحتمالات في حين أن الكتابة تحدها ضمن عناصرها الأساسية". في حين يقوم مديرون آخرون بالكتابة ليصلوا إلى جمهور معين، فالرسائل التي يوجهها لاري فلينك ووارن بافيت إلى المساهمين هي بمنزلة إطلاق كتاب مهم وضخم للجمهور.

غير أن الانتقال للعمل عن بعد عزز قيمة الكتابة بالنسبة لكامل المؤسسة وليس فقط لدى أحد فروعها أو مكاتبها. إذ عندما يتم تسليم مهام معينة للزملاء الموجودين في مواقع مختلفة، أو عندما يقوم عدد من الأشخاص بالاشتغال على مشروع بطريقة غير متزامنة، أي في الوقت الذي يختارونه، تصبح عملية التوثيق الشاملة أساسية ومهمة. وعندما يبدأ موظفون جدد بالعمل على شيء معين، يحتاجون إلى قاعدة ينطلقون منها. وعندما يغادر موظفون قدامى مؤسسة معينة، يتعين عليهم أن يتركوا معارفهم لمن سيأتي بعدهم. بيد أن كتابة كل شيء وتدوينه أمر متعب جداً، ولكن تخيل نفسك وقد أتيت لحضور اجتماع من دون أن تكون لديك أدنى فكرة حول ما تم إقراره خلال الوقت المستقطع قبل حضورك.

لقد نجح مطورو البرمجيات في تقدير قيمة الكلمة المكتوبة، إذ كشف برنامج بحثي لغوغل بحث عن عناصر ومكونات المشاريع التقنية الناجحة بأن الفريق الذي يوثق كل شيء بأعلى جودة يقدم برمجيات بصورة أسرع وبطريقة موثوقة بشكل أكبر. ولذلك تمثل منصة غيتلاب التي تعمل على استضافة الشيفرات والتي يعمل جميع موظفيها عن بعد سر العمل غير المتزامن الناجح، والسؤال الذي يطرح حول ذلك هو: "كيف يمكنني أن أوصل هذه الرسالة، وأن أمثل هذا العمل، أو أن أمضي قدماً بهذا المشروع اليوم إن لم يكن أحد من أفراد الفريق (أو الشركة) الذي أعمل لديه مستيقظاً؟" تجيب عنه غيتلاب بالآتي: "عبر التواصل النصي". ولذلك أصبح قانون تلك الشركة موجوداً على شكل كتيبات متوافرة للعموم، ويمتد هذا القانون على مدار أكثر من 3 آلاف صفحة، ليوضح ما تقوم به من عمليات داخل المؤسسة.

إن التروي والنظام الذي تتطلبه الكتابة مفيد في سياقات أخرى أيضاً، فهنالك مصطلح Brainwriting أي استنهاض الأفكار وكتابتها، ولقد استعان تطبيق  Slack  وغيره بهذا المصطلح الذي يمنح المشاركين بعض الوقت حتى يدونوا أفكارهم قبل البدء بمناقشتها. كما أن القوائم التي تضم القيم التي تتبناها الشركة أو المؤسسة يمكن أن تجعل بطاقات المعايدة شديدة الصعوبة، إلا أن القوننة المدروسة لثقافة الشركة تبدو منطقية بشكل أكبر ضمن أماكن العمل الهجينة أو عن بعد، حيث تضعف فرص اللقاء والمراقبة بين من ينضمون إليها حديثاً مع غيرهم من الزملاء.

قد لا يجد المحافظون أي شيء يعبر عن الكتابة في أي شيء ذكرناه حتى الآن، إلا أن النثر الجميل والمفيد يشترك مع تلك الأمور بالصفات الأساسية ذاتها، وهي الاختصار والترتيب ووضوح الفكرة. فالروائي الحاصل على جوائز كورماك ماكارثي يقوم بتدقيق نسخ من الأبحاث العلمية فقط من أجل التسلية. أما تيد تشيانغ فيخبرنا بأن قصص الخيال العلمي القصيرة التي يكتبها وكذلك أسلوبه في الكتابة تعتمد كلها على رغبته بشرح فكرة معينة بوضوح.

غير أن الكتابة قد لا تكون أفضل وسيلة للتواصل في مكان العمل على الدوام، وذلك لأن الفيديو يبقى في الذاكرة لفترة أطول، والمكالمة الهاتفية أسرع، بل حتى الباوربوينت له مكانته الخاصة. ولكن الكلمة المكتوبة خلقت للعمل عن بعد وذلك بفضل تنظيمها للأفكار، وسهولة نقلها ومشاركتها وتحريرها.

المصدر: إيكونوميست