أهل السنّة في ربيع الثورات وخريفها

2019.12.18 | 15:32 دمشق

photo_2019-12-20_13-35-09.jpg
+A
حجم الخط
-A

في قراءة مبسطة لمشهدية الانتفاضة اللبنانية التي يشهدها لبنان منذ قرابة الشهرين في مختلف مناطقه، ثمة ظاهرة تستحق التوقف عندها، هي المناطق السنية المنتفضة من شمال لبنان إلى جنوبه.

قد يكون الحديث عن السنّة المنتفضين منفّراً في هذه المرحلة في ظل تظاهرات وطنية تتخطى الطائفية أو المذهبية، لكن الواقع السنّي في كل المنطقة المحيطة يحتاج إلى قراءات ودراسات متعددة، خصوصاً بعد ما حصل في كل من سوريا، العراق، ولبنان تحديداً، والدول العربية الأخرى بشكل عام. إذ يبدو أن الواقع السنّي هو الأضعف بين المكونات الأخرى، وهو المستهدف سواء من داخله ومكونات هذه البيئة أم من مكونات أخرى خارجة عنها.

الإحباط هو الذي دفع السنّة إلى الخروج في تظاهرات وتحركات في مختلف دول الربيع العربي، ولم تكن مطالبهم لها علاقة بالطائفية أو المذهبية، جلّ ما طالبوا به كان يرتبط بتحسين أوضاع المواطنين السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل مجتمعاتهم، وهنا لا بد من العودة في القراءة إلى أحداث شباط 2005 وما تحول إلى انتفاضة لبنانية في ذلك الحين بعد اغتيال رفيق الحريري. لم يكن السنّة وحدهم الذين خرجوا إلى الساحات والشوارع، ولو كان الأمر كذلك، لما تجرأ السنة على التظاهر وحدهم خوفاً من مواجهتهم بشعارات وحملات أنهم ينفذون انتفاضة إسلامية. فكان الانفجار المسيحي في الساحات هو النصير الأكبر لخروج السنة من منازلهم ومدنهم والتمسك بخيار الساحات.
 
في سوريا والعراق الوضع كان مختلفاً ومتعاكساً، ففي سوريا، كان السنةّ يعيشون القمع والتنكيل ومن يخرج عن طاعة البعث والنظام كانت تهمته جاهزة بالإرهاب والتطرف. أما في العراق، فكان السنّة أصحاب "القوة" أيام صدام حسين، لكنهم دفعوا الثمن تنكيلاً وتهجيراً بعد سقوطه، فكان الانتقام منهم هو العنوان الأساسي من قبل الجماعات الأخرى.

القاسم المشترك بين الدول الثلاث يرتبط بالتنكيل بالسنة ومحاصرتهم وتطويقهم ووصفهم بالإرهاب، وهم لم يكونوا وحيدين الذين وضعوا في هذه الخانة، فبعد الحادي عشر من أيلول 2001، أصبح كل السنّة على هذا التصنيف، أصبحت دول الخليج على رأسها المملكة العربية السعودية على قائمة الدول الخاضعة للابتزاز الكامل بحثاً عن صكوك البراءة، عملية الابتزاز لم تتوقف حتّى في معركة إيران مع دول الخليج في إطار عملية تصديرها للثورة ونقل المعركة إلى الخليج العربي في السنوات الأخيرة.

تعرّضت دول الخليج لعملية شيطنة ممنهجة من قبل الإيرانيين والروس ومن قبل تنظيمات ومؤسسات رسمية وغير رسمية غربية أوروبية وأميركية أفقدت العرب السنّة أي مجال للمواجهة السياسية

تعرّضت دول الخليج لعملية شيطنة ممنهجة من قبل الإيرانيين والروس ومن قبل تنظيمات ومؤسسات رسمية وغير رسمية غربية أوروبية وأميركية، أفقدت العرب السنّة أي مجال للمواجهة السياسية، حتى عندما تعرضت الأراضي الخليجية وتحديداً السعودية إلى هجمات وضربات إيرانية أو من حلفاء إيران، لم تجد دول الخليج السنية من يدافع عنها، وهي غير قادرة على الدفاع عن نفسها، أولاً لافتقادها لعامل المبادرة والمشروع أو الرؤية السياسية، وثانياً لأنها قبل التفكير في ردّ ستكون مهجوسة في حسابات تصنيفها إرهابية، وهي تريد نفي هذه التهمة عنها.
 
وضع سنّة سوريا والعراق لم يكن مختلفاً، وكذلك بالنسبة إلى سنّة لبنان. الذين كانوا عرضة للاتهامات الدائمة بأنهم أصحاب التطرف والإرهاب، ليحجبوا عن أي خطوة سياسية لا تتلاءم مع القوى الأخرى أو تتعارض مع مصالحها. فبعيد انتفاض السنة في لبنان عام 2005، اخترع النظام السوري ما يسمى تنظيم فتح الإسلام المتطرف ودخل في اشتباكات مع الجيش اللبناني في لعبة واضحة ومكشوفة حول شيطنة السنّة وإبعاد المسيحيين عنهم. في العراق وسوريا، اخترقت الثورات المدنية والانتفاضات الشعبية بتنظيمات إرهابية متطرفة، عملت على "دعشنة" هذه المجتمعات لتبرير سحقها على مرأى العالم.
 
حتّى تركيا، حليفة الأميركيين التاريخية والعضو الأبرز في حلف الناتو لم تسلم من هذا التصنيف، فهي التي اتهمت برعاية تنظيم داعش وتوفير الحماية والرعاية لكل التنظيمات المتطرفة، كانت ولا تزال مستهدفة، أولاً من قبل الغرب ورعاة ما يسمى بتحالف الأقليات ومحاربة السنّة بذريعة الإرهاب، بينما الحرب الأساسية تعود لسبب رئيسي وهو أنهم الأكثرية في هذه المنطقة، وأصحاب التأثير الديمغرافي والاقتصادي والثرواتي الأساسي. فاستهدف السنّة من خلال خلق جماعات متطرفة من داخل بيئاتهم لتفريغ أي تحرك سياسي تقدّمي يسعون إليه. كما يستهدفون في السياسة العامة دولياً، سواء بدعم الأميركيين السرمدي لإسرائيل، ولما يسمى الأقليات كالأكراد ضد الأتراك، في ملاقاة دعم الإيرانيين للأقليات العلوية والشيعية، تحت رعاية روسية تحرص على تحالف مشرقي وتحقيق تقدم أرثوذكسي في منطقة الشرق ولم يكن وصف الكنيسة الأرثوذكسية لتدخل روسيا في سوريا بالحرب المقدسة إلا أبرز الدلائل على ذلك، وصولاً إلى دعم غربي من قبل اليمين الأوروبي المحافظ والمتشدد للمسيحيين أيضاً تحت شعار حلف الأقليات.

فأصبحت المعركة بين هذه التحالفات على تناقضها مع البيئات والمجتمعات السنية في هذه المنطقة، مقابل معارضة واضحة لشخصيات وطنية وتقدمية غير سنّية لهذه الطروحات، ومعارضتها لوضع المعركة في هذه الخانة والإطار. هنا انقسمت البيئة السنية إلى قسمين، قسم الأنظمة التي أبدت الاستعداد لتقديم التنازلات في كل الملفات والأمور، مقابل الحصول على صكوك البراءة والغفران والحفاظ على كراسيها. وقسم الشعوب التي تستمر بالتحركات وهي طامحة لإرساء دولة المواطنة وإحلال ما يسمى المشاركة السياسية الفاعلة إيماناً بدورة التاريخ التي ترفض الجماد وتصرّ على التقدم. فأصبحت المشكلة بين هذين القسمين، قسم الأنظمة التي تريد مواجهة الشعوب، والتحالف أو التفاهم مع القوى الغربية التي تريد مواجهة الأكثرية وطموحاتها وتطلعاتها وتفريغ قوتها الديموغرافية والعملية والمادية.
 
هذه المعادلة، هي التي حكمت بالإعدام على الثورة السورية، واتخذت سمة مذهبية، وهي نفسها التي حكمت بالإعدام مذهبياً على سنّة العراق، أيام انتفاضتهم، فاخترع تنظيم داعش وولي عليهم لتبرير سحقهم وضربهم وتهجيرهم، لكنها أيضاً نفسها التي تدفع إلى سحق الانتفاضة العراقية في المناطق الشيعية، وهذا أبرز دليل على أن المعركة لا علاقة لها بالنسبة إلى الانتفاضات بالمذهبيات والعصبيات، إنما الأنظمة هي التي تخترع ذلك وفق ما يتلاءم مع مصالحها، بينما المواجهة واضحة وهي بين شعوب تريد على اختلاف تنوعاتها أن تحقق التقدم، وأنظمة وقوى سياسية تسعى إلى تطييف التحركات ومذهبتها لإجهاضها.
 
لكل هذه الأسباب، يظهر السنّة في المنطقة، بموقع من اثنين، إما منتفضان فَسِمَتُهم تكون الإرهاب ويجب محاربتهم لتطويعهم وانعدام أي تأثير لهم، أو أن يكونوا مطواعين بلا أي طموح سياسي أو اجتماعي، على غرار ما حاول النظام السوري إنتاجه لبعض الشخصيات السنية التي أعطاها صفة المعارضة لكنها بلا أي رأي أو تأثير، وهو نفسه ينطبق على لبنان، الذي لا يزال السنة المعتدلون فيه عرضة للاستهداف والتشويه، وهذا ما كان عليه الحريري طوال السنوات السابقة، الذي تعرض لأعنف الحملات والهجومات، باعتباره زعيم السنة المعتدلين، فيما الغاية الأساسية من الهجوم عليه وتطويقه كانت تهدف إلى تطويعه وتأديته فروض الطاعة والتنازل عن كل شيء، وهذا ما فعله في السنوات الأخيرة.
 
لكن مجتمعه وبيئته رفضت هذه التنازلات والرضوخ لهذه المعادلة، ولذلك مع اندلاع الانتفاضة اللبنانية في 17 من تشرين، كانت المدن السنية من أكثر المدن مشاركة، متخطية كل الحسابات المذهبية، وكانت أول المدن المطالبة باستقالة حكومة الحريري، في تعبير عن رفض لهذه التنازلات، والرضوخ لمعادلات يسعى الساعون باستمرار إلى إرساء حلف الأقليات بفرضها عليهم، لأن المعادلة غير خاضعة لمعيار الأكثرية والأقلية، بل في إرساء دولة وطنية تقوم على أساس حقوق المواطن وواجباته.