أن "نقرأ" فستان وعد الخطيب

2020.02.15 | 23:03 دمشق

1440x810_cmsv2_8528aaf0-a028-5e28-9f46-cd6c054aaa61-4493558.jpg
+A
حجم الخط
-A

العبارة المطرزة على كامل فستان السينمائية السورية وعد الخطيب: "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة"، وقد ارتدته في حفل جوائز الأوسكار، احتوت ببساطة الحكاية السورية منذ آذار 2011.

ما قامت به وعد الخطيب في الحفل السينمائي، الذي يراقبه مئات الملايين حول العالم، يتخطى التصريح البليغ، أو النطق بهتاف شاعري. إذ علينا النظر إلى المشهد بكليته: ثمة امرأة سورية حوّلت يوميات مأساة حلب، ومأساة السوريين إلى تحفة سينمائية. امرأة حرّة غير خانعة، ثائرة وعاشقة وأم وزوجة وفنانة.. ولا ضير في القول أيضاً أنها امرأة جميلة وشابة وذكية.

في المشهد أيضاً أن هذه المرأة تقف (وزوجها وابنتها) على السجادة الحمراء المخصصة لمشاهير السينما ونجومها، أي في قلب النخبة الفنية التي تصوغ "خيال العالم" وصورة العالم عن نفسه. بل التي تصنع الثقافة المعولمة وذائقة البشر. فالذاكرة السينمائية هي الأفعل في كينونة البشر المعاصرين.

وأبلغ من ذلك، وعد الخطيب وأسرتها تمثل أيضاً وجهاً من وجوه اللاجئين السوريين الفارين من "سوريا الأسد" وجحيمها. اللاجئون الذي "انتصر" عليهم بشار الأسد وفلاديمير بوتين. اللاجئون الذين يواجهون العنصرية والإسلاموفوبيا

تحطّم صورة وعد الخطيب وأسرتها واحدة من أكثر الأساطير السياسية للأسدية – البوتينية – الخامنئية، ألا وهي إلصاق الداعشية بالثورة السورية وبالشعب السوري

والتمييز أينما حلّوا.. وها هي "اللاجئة" وعد الخطيب، كما آلاف السوريين المبدعين والفنانين يمنحون العالم والبلدان التي حلّوا فيها قيمة مضافة، أكان ذلك في دكان حلويات، أو مصنع نسيج، أو مطعم (حلبي أو دمشقي..) أو رواية أو فيلم أو عيادة طبيب أو مهندس كمبيوتر.. إلخ.

في المشهد "الأوسكاري" أيضاً، تحطّم صورة وعد الخطيب وأسرتها واحدة من أكثر الأساطير السياسية للأسدية – البوتينية – الخامنئية، ألا وهي إلصاق الداعشية بالثورة السورية وبالشعب السوري. هذا الأمر فعّال في وعي العالم أكثر بكثير من أي بيان سياسي. قوة الصورة وحقيقتها التلقائية.

إن سينوغرافية حضور وعد الخطيب، تشتمل على عناصر عدة، بدءاً من "الأناقة" والجمال والرهافة الشخصية، إلى تلك العبارة السياسية المطرزة على الفستان، إلى التمثيل النسوي الذي جسّدته، بالإضافة إلى التعبير عن الهوية الثقافية التي يكتنزها السوريون بكل تنوعهم. وكل هذا مصحوباً بالإنجاز: الوصول إلى هذه المنصة العالية، إلى أضواء التقدير الرفيع المستوى لعملها.

مع هكذا سينوغرافيا، تكتسب عبارة "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة" قوة دعائية، وطاقة تعبيرية، وأثراً سياسياً دامغاً من الصعب مقارعته. فهي ليست هنا مجرد يافطة في تظاهرة مثلاً، ولا هي فقط عنوان مقالة جيدة. فعدا أنها منقوشة بخط فني على فستان راق "هوت كوتور" (Haute couture)، كبيان جمالي وحسب، فهي تبدو طالعة من جرح وجداني عميق. إنها تتويج لسيرة حيّة تنضح بها قصة وعد وزوجها وابنتها، قصة مدينة، قصة ثورة، قصة شعب وبلد وتاريخ. "الحلم" و"الكرامة" و"الندم" (وضمناً: رفض الهزيمة) ما عادت هنا كلمات مجرّدة، وإنما تتفجر بالمعاني التي ترادف حكاية تسع سنوات من النكبة السورية.

لا أظن أن سورياً واحداً من شعب الثورة يتردد في تبني هذا الشعار "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة". فالنظام الأسدي طوال خمسين سنة لا يقوم ولا يستمر إلا على حرمان السوريين من هاتين الكلمتين: الحلم والكرامة. هما مصدر كل الخطر على استبدادية "الذل" و"اليأس".

يمكننا أيضاً الانتباه إلى حقيقة أخرى في صورة وعد وحضورها: هذا الترادف بين الثورة والفن والجمال، حب الحياة، وحياة الحب (قصتها الشخصية وزوجها الطبيب حمزة الخطيب وابنتهما سما). فرغم ويلات الحرب ورغم الفظاعات والبشاعات والدمار ورغم كل محاولات النظام الأسدي وحلفائه، بل ورغم محاولات التنظيمات الإسلاموية المتطرفة والمتجهمة والظلامية، لجعل الثورة رديفة الخراب والبشاعة والموت.. بقيت ثورة الحلم والكرامة تحتفظ حتى اليوم بمثالاتها وصورها ولحظاتها الإنسانية، لحظات توأمة الثورة بالجمال والفن والحب وبوصفها حلماً وكرامة، والتي شهدناها مئات آلاف المرات منذ أول تظاهرة في ربيع 2011 إلى آخر فيلم وثائقي صنعه ثوار سوريا وثائراتها.

هنا نعود مرة جديدة إلى حقيقة ساطعة فرضتها الثورة السورية: تفاهة الثقافة الأسدية

تتضاعف بشاعة الثقافة الأسدية البعثية أمام واحدة من أعظم ظواهر الثورة السورية: الأفلام الوثائقية

البعثية، تخثرها في الابتذال وانعدام المخيلة، استنقاع لغتها وانحطاطها.. بشاعتها المزينة بالبلاهة، خواؤها المميت للروح الشبيه بقصائد الشعراء الموالين والممالئين.

تتضاعف بشاعة الثقافة الأسدية البعثية أمام واحدة من أعظم ظواهر الثورة السورية: الأفلام الوثائقية. كأنما هذه الثورة (وأسمح لنفسي بشيء من المبالغة) "ابتكرت" السينما الوثائقية، أو على الأقل منحتها أفقاً جديداً. فواقعة أن مؤسسة جوائز الأوسكار ترشّح هذا العام فيلمين وثائقيين سوريين دفعة واحدة.. ويكون وجود فيلم سوري واحد على الأقل للسنة الرابعة على التوالي في قائمة المرشحين لأفضل فيلم وثائقي في العالم، لا هو صدفة ولا بالطبع "مؤامرة أميركية".

عملياً هذا اعتراف واسع ومؤكد ونادر بالإعجاز الفني للوثائقيات السورية، وسيبقى مؤثراً في تاريخ هذا الفن، ويكرس تلك الأفلام كمرجعية دائمة للذاكرة السينمائية (العالمية). والأهم هنا ليس ما قدمته الأفلام السورية مضموناً ووثيقة وحسب، بل وأساليب صنعة وتسجيل وتصوير وصياغة.

المكسب العظيم في هذه الأفلام أنها "شهادة" لا تدحض. دليل قاطع ونهائي على الجريمة. ووثيقة دامغة على نبل الثورة اليتيمة والمغدورة. وإذ تخاطب العالم وتصدم ضميره، إلا أنها في الوقت نفسه تمنح الشعب السوري ذاكرته الوطنية والتاريخية، تمنحه تلقائياً الحقيقة التي ستحفظها الأجيال، والبرهان الأخلاقي والثقافي على أن نظام الأسد لن يستطيع أبداً أن يمحو عبارة "تجرأنا على الحلم ولن نندم على الكرامة".