icon
التغطية الحية

"أن تقرأ لوليتا في طهران" لـ آذر نفيسي: غرفة للحرية وحدها

2022.10.02 | 06:29 دمشق

رواي
+A
حجم الخط
-A

في سيرة ذاتية وأدبيّة غير تقليدية للكاتبة الإيرانية "آذر نفيسي" حملت عنوان "أن تقرأ لوليتّا في طهران" يختلط الشخصيّ بالسياسيّ إلى حدّ كبير؛ إذ تنتقد الكاتبة الحياة في إيران بعد انتصار ما أطلق عليها "الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة"، إلّا أنّ تركيزها الأكبر كان على فكرة المقاومة من خلال الأدب وإطلاق حريّة التخيّل، وأن لا وجود لديمقراطية حقيقية من دون وجود حريّة التخيل، واللجوء إلى الأعمال الأدبية الخيالية بلا قيدٍ أو شرط في جمهورية حكم فيها النظام ومثقّفو الثورة على أعمال الكتاب العظام بالتعتيم والإلغاء، فمنعت معظم كتبهم وحُرّم تداولها، فضلاً عن تدريسها.

وبسبب التضييق الكبير على الجامعات التي أصبحت هدفاً لانتقادات المتشدّدين، تتخلّى الكاتبة عن التدريس في جامعة "العلامة الطباطبائي" وتلتفت بقوّة إلى فكرة إنشاء صفّ خاص في بيتها تضمّ إليه مجموعة منتقاة من الطالبات؛ تشهد وإيّاهنّ بالتجربة الحية؛ "كيف يمكن لحصاة عادية في حياتنا اليومية أن تستحيل جوهرة ساطعة إذا ما نظرنا إليها عبر العين السحرية للأدب!" على حدّ تعبير نابوكوف صاحب رواية "لوليتا".

أرادت الكاتبة من خلال إنشائها لذلك الصف أن تمارس حريّتها التي حُرمت من ممارستها في الفصول الدراسية المقرّرة في الجامعة عبر مجموعة صغيرة منتقاة بعناية من الطلاب الملتزمين والمهتمين بدراسة الأدب، طلبة لم تفرضهم عليها الحكومة، ولم يختاروا دراسة الأدب الإنكليزي لمجرّد أنّهم لم يحصلوا على القبول في أقسام أخرى، أو لأنّهم ينظرون إلى الحصول على شهادة في اللغة الإنكليزية على أنّها وعدٌ بالحصول على فرصة عمل جيّدة؛ فالتدريس في "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" أصبح مرهوناً بالوضع السياسي، ويتأثّر بالقوانين الاعتباطية، وأصبحت متعة التدريس تفسدها غالباً الانحرافات والاعتبارات العشوائية التي كان النظام يفرضها عليهم بقوّة.

من خلال هذا الصف هيأت الكاتبة لنفسها انسحاباً مثمراً من الواقع الذي استحال بالتدريج إلى منطقة معادية، كما أنّها في عمليّة انتقائها لطالباتها لم تمعن النظر في خلفياتهنّ الأيديولوجية أو الدينية، لتكتشف لاحقاً أن أعظم إنجاز لها تجلّى في ذلك الخليط المتباين الذي انطوى عليه صفّها الدراسيّ الخاص؛ إذ أنّ طالباتها أتين من بيئاتٍ مختلفة اجتماعياً ودينياً؛ بل قد كانت بيئاتهن متنازعة في كثيرٍ من الأحيان، تقول:

"وكان من بين الأسباب التي دعتني إلى انتقاء هاتيك البنات من دون سواهنّ، هو ما لمسته فيهنّ من تمازجٍ فريد بين الرهافة والشجاعة، فقد كنّ من ذلك النوع من البشر الذي يصحّ عليهنّ القول بأنهنّ كنّ متفرّدات وذوات طبيعة خاصة، ولم ينتمين لأيّ جماعة أو طائفة بعينها، لقد أذهلتني طاقتهنّ على مواصلة الحياة، لا على الرغم من عوالمهنّ الانعزالية؛ وإنّما بسببها".

تسأل الكاتبة السؤال الآتي: "لماذا لوليتا في طهران؟ وما هي علاقة لوليتا بطهران؟

تكمن الصدمة في أن لوليتا تمّ تقديمها على أنها صنيعة مغتصبها، وأنّها لا تملك تاريخاً حقيقياً خاصّاً بها بعد أن عمد مغتصبها إلى مسخ تاريخها الشخصي وصوغ لوليتّا أخرى تناسبه، ثمّ تعلّق الكاتبة على هذه النقطة بقولها: "إنّ ماضي إيران الحقيقيّ قد أصبح أمراً ثانوياً لأولئك الذين استحوذوا عليه، تماماً مثلما أصبح ماضي لوليتا الحقيقي ثانوياً بالنسبة لهومبرت". وهكذا كان "الخميني" شأنه شأن صنّاع الأساطير العظماء، حاول أن يفصّل الواقع الإيرانيّ على ضوء حلمه القديم، إلّا أنّه في نهاية المطاف نجح في تدمير الواقع والحلم.

إنّ معيار الكاتبة في اختيار الكتب والروايات المدروسة؛ هو الإيمان العميق لكتّابها بالطاقة الهائلة والسحرية للأدب، فمن يعيش في كنف "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" يدرك مدى القسوة المأساوية اللامعقولة، بل المضحكة التي يرزحون تحت وطأتها، لذلك عليهم أن يدسّوا المزاح في قلب مأساتهم، وأن يسخروا من تعاستهم لكي يبقوا على قيد الحياة؛ لهذا أصبح الأدب والفنّ جزءاً جوهرياً في حياتهم ولم يعد مجرّد رفاهية، بل غدا ضرورة من ضرورات الحياة، حين يحيا المرء وحيداً في عالم تملأه الوعود الكاذبة، ويستحيل عليه التفريق بين الضحية والجلاد.

للكاتبة موقف رافض من كلّ ما كان يحدث في إيران باسم الثورة، حتّى الحرب العراقية الإيرانية التي لم يشعروا يوماً بأنّهم جزء منها، أمّا بالنسبة لبعضهم ممّن يتبنّون شعار الخميني؛ "الحرب بركة لنا!" فلا بدّ أن تكون كذلك بالنسبة إليهم

تصف الكاتبة لقاءاتها المتكرّرة بطالباتها صباح كل خميس والتي تقتصر على سويعاتٍ قليلة، كيف أتاحت لهنّ أن يتحدينَ الواقع القمعيّ الذي يتربّص بهنّ خارج تلك الغرفة، كانت تلك اللقاءات بمنزلة الثأر لأنفسهنّ من أولئك الذين استبدّوا بحياتهنّ، وتتيح لهنّ أن يشعرن بطعم الحرية وأن يتحدّثن عن أفراحهنّ وأتراحهنّ وخيباتهنّ الشخصيّة وضعفهنّ الإنساني، وتخلّيهنّ بعض الوقت عن مسؤولياتهنّ تجاه عوائلهنّ والأقارب والأصدقاء.. وأيضاً الجمهورية الإسلامية، وأن يعبرن عن كلّ ما يحدث لهنّ بكلماتهنّ الخاصّة وأن تكون لهنّ آراؤهن بأعمال أدبية بعينها، وهذا ما لم يكن متاحاً لهنّ في أروقة الجامعة التي وضعت قيوداً على ما يُدرّس في الجامعات، واستطعن كما تقول الكاتبة للمرّة الأولى: "أن نرى أنفسنا وفقاً لنظرتنا الخاصة، وبأعيننا لا بعيون الآخرين".

للكاتبة موقف رافض من كلّ ما كان يحدث في إيران باسم الثورة، حتّى الحرب العراقية الإيرانية التي لم يشعروا يوماً بأنّهم جزء منها، أمّا بالنسبة لبعضهم ممّن يتبنّون شعار الخميني؛ "الحرب بركة لنا!" فلا بدّ أن تكون كذلك بالنسبة إليهم، لقد منحتهم الحرب إحساساً بالانتماء إلى المجتمع، وأصبحت بالنسبة إليهم غايةً منشودة ومصدراً للسلطة والنفوذ، وحين بدأت الثورة الثقافية في إيران عقب موت الخميني وقاد الطلبة تظاهرات واعتصامات واسعة شاركت الكاتبة في معظمها، بالرغم من أنها لم تكن تتفق مطلقاً مع أيّ تنظيم من التنظيمات، فالنخبة المثقّفة لم تكن أفضل حالاً من رجال الدين في نظرها كما كانت تؤمن في قرارة نفسها بأنّه: "لو كان اليساريون قد استلموا السلطة، لفعلوا الشيء نفسه، ومع هذا لم تكن هذه هي القضية طبعاً، لقد كانت القضية هذه المرّة تتعلّق بالجامعة التي كان لنا جميعاً يدٌ في تدميرها، مثلها مثل إيران".

دفع القصف العراقي النظام الإيرانيّ لتخفيف وطأة قيوده وسلطته على الشعب؛ ليصبح وجود اللجان الأخلاقية و"الحرس الثوري" في الشوارع أقلّ وضوحاً، إلّا أن الكاتبة تسخر من إصرار النظام على إبقاء سيطرته على عقولهم وخيالهم، حين بدأ يبثّ لهم عبر الشاشات كلّ ما تيسّر له من أفلام وثائقيّة عن الحربين العالميتين على مدار الساعة، في الوقت الذي بدأت فيه شوارع طهران تبدو فيه أكثر حيوية وأبهر لوناً، وجدوا أنفسهم مضطرين لمشاهدة أهالي لندن في التلفزيون وهم يبحثون عن كسرة خبز في حاويات القمامة، أو وهم قابعون برعبٍ في ملاجئ تحت الأرض، وشرعوا يحدّثوهم عن حصار وحشيّ وقاسٍ تعرّضت له مدينتيّ لينينغراد وستالينغراد، دفع أهالي المدينتين الذين كانوا يقاومون الحرب إلى أكل لحم رفاقهم الميتين!

تفضي الكاتبة بمخاوفها لصديق مثقّف من كونها قد خلقت لدى طالباتها وهماً موازياً، أو مضاداً للوهم الذي خلقته الجمهورية الإسلامية في حيواتهنّ، ليجيبها بقوله: "لا أحد يستطيع أن يتحمّل هذا الوهم، لا أحد يستطيع البقاء على قيد الحياة في هذا البلد من دون أن يخلق فردوسه الخاص الذي يهرب إليه". ثمّ نصحها أن تفعل معهنّ ما يفعله الشعراء مع ملوكهم الفلاسفة، فهي ليست بحاجة إلى أن تخلق لهنّ من الغرب وهماً موازياً، وإنّما تمنحهنّ أفضل ما يمكن أن يمنحه العالم الآخر؛ "امنحيهنّ الأدب الخالص، أعيدي إليهنّ خيالهنّ!".

تقرّر الكاتبة في نهاية المطاف أنّها لم تعد قادرة على البقاء في إيران، وأنّها لن تستطيع مواصلة العيش بتلك الطريقة، فهي بأمسّ الحاجة إلى مكانٍ لا تكون الحياة اليومية فيه ساحة معركة، تنصحها إحدى صديقاتها بالتكيّف مع الأمر قائلة: "نحن لسنا مع النظام جملةً وتفصيلاً، لكن ماذا بوسعنا أن نفعل سوى إطاعة الأوامر! هل لا بدّ لي من أن أدخل السجن وأخسر وظيفتي بسبب خصلتين طائشتين من الشعر؟". صديقةٌ أخرى تنصحها بالنظر إلى النساء في الصومال وأفغانستان، عندها ستكتشف أنهنّ يحيين كالملكات مقارنةً بهنّ! لكن الكاتبة تتساءل: "لماذا علينا أن نجد في بؤس الآخرين عزاء؟".

تبدأ الكاتبة بكتابة سيرتها هذه بعد وصولها إلى الولايات المتحدة الأميركية، وحين تتحدّث مع طالبة لها آثرت البقاء في إيران، بخلاف كثيراتٍ غادرن؛ عن حيرتها بشأن ما كتبته عنها، ترسل لها طالبتها رسالة ختمت الكاتبة بها كتابها:

"خمس سنوات مرّت منذ بدأت القصة في غرفةٍ أضاءتها الغيوم، حيث قرأنا "مدام بوفاري"، وتناولنا الشوكولاته من طبق بلون النبيذ الأحمر في صباحات الخميس، لم يتغيّر أي شيء من الرتابة المتواصلة في حياتنا اليومية، بيدَ أنّني في مكانٍ ما في روحي أحسّ بأنني تغيرت. ففي كل صباح، ومع إشراقة الشمس الروتينية، وأنا أفيق من نومي وأضع حجابي أمام المرآة لكي أخرج من بيتي، فأغدو جزءاً ممّا نسمّيه الواقع، وأعلم كذلك بأنّ ثمّة (أنا) أخرى أصبحت عارية على صفحات كتاب من عالم آخر هو عالم الخيال، وأعلم أنني غدوت ثابتةً خالدةً مثل تمثالٍ لـ رودان، ولذا فإنني سأبقى حاضرةً طالما أبقيتني نصبَ عينيكِ..".