أنيس صايغ عن أنيس صايغ

2020.09.21 | 00:00 دمشق

unnamed_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لم يجد من يكتب عنه، فكتب عن نفسه" هكذا يستفتح أنيس صايغ سيرته الذاتية بهذة العبارة التي قد يطلقها بعض الساخرين عليه. يكتب أنيس صايغ قصة حياته رغم أنه شخص عادي، هكذا ينظر لنفسه، فلقد سخرت الأقلام للكتابة عن العظماء والأبطال ومحققي المعجزات ونائلي الجوائز، في السياسة والحكم والثقافة والعلم والفن وجمع الثروات، وهو ليس واحداً من هؤلاء، وهو لم يقطع بحر المانش سباحة، ولم يهبط على سطح القمر ولا تسلق قمة أفرست، ولم يحصل على أوسكار أو نوبل أو بولتزر، وكانت اهتماماته الحياتية لم تتجاوز دائرة الكتابة وعالم السياسة.

لقد أحجم أنيس صايغ طيلة عقد من الزمان عن تلببية نصائح واقتراحات من أصدقائه وبعض القراء بكتابة سيرتة الذاتية، وكان يقول عن حياته "ربما كانوا مخدوعين ببريق في مظاهر حياتي يحاول أن يخفي عتمة هذه الحياة"، وكان يتهرب من إلحاحهم بتحريض الآخرين من المؤلفين والساسة لكتابة مذكراتهم وتدوين سيرهم الذاتية، وهو يشعر بالزهو لأن العشرات من كتب السير التي صدرت إنما تدين له بالحض والتحريض.

سقط هذا التمنع فجأة عندما استمع إلى ابنة صديقه، طفلة في حوالي العاشرة، تسأل والديها عمن يكون "عمو أنيس" وماذا عمل ويعمل؟ وتلعثم الوالد وأحال ابنته إلى أنيس، وسألت الفتاة هل أنت دكتور؟ فقال كلا. قالت إذن معلم، وهز رأسه بالنفي مهندس؟ ضابط؟ تاجر؟ والتبس الأمر عليها، وأخذ أنيس يمازحها حتى نسيت الفتاة السؤال وتخلت عن حشريتها، وأخذ الموضوع يثير حشرية أنيس. هكذا ببساطة وعفوية قرر أن يسجل حياته وقد لامس الخامسة والسبعين فيعرف الناس بنفسه ولعله ليتعرف إلى نفسه.

سيرة أنيس وادعة لا تنتهج طريقة تجريح الآخرين وذكر المثالب بالأسماء والشخصيات، فهو لا يحب الدخول في المعارك، وهي على العكس من سيرة الكاتب عبد الرحمن بدوي الذي يقول فيها للأعور أنت أعور، أما أنيس فيرى أن المطلوب هو تأريخ الأحداث وليس مد أصابع الاتهام، ويفلسف ذلك بأن حياة الإنسان، كل إنسان تمتلئ بالمجابهات السلبية مع غيره ما دام هو قد صرف أيامه يعمل وينتح ويتحرك، والإنسان الكبير هو الذي يستطيع أن ينظر إلى تلك الوقائع الماضية نظرات منصفة وعادلة منزهة عن الأهواء والضغائن والأحقاد.

يحكي لنا طفولته وأجواء الأسرة وقصة تعارف والدته مع والده، والفصل الأول بعنوان "في المنبت" هو عن حياة الطفولة وطبيعة الأسرة وقصص إخوانه وطريقة معيشتهم، وقد تحولت أسرة والدته من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، التحول الذي يعتبره الكاثوليك ضلالاً ويعتبره الإنجيليون اهتداء.

يقص علينا قصصا عن قوة شخصية والدته عفيفة البتروني وعن تدين والده القسيس عبد الله الصايغ الذي التحق بكلية اللاهوت الموجودة في القدس مفضلاً إياها عن الموجودة في بيروت لمواصلة دروسه، برغم أنها بعيدة نسبياً إلا أنها أكثر تمسكاً بالتفاسير والقراءات والاجتهادات التقليدية وكانت تلتزم بالآراء المحافظة، وكان والده يرفض مجاراة القسس في لبس الياقة البيضاء حول العنق والروب الأسود أثناء خدمة العبادة في الكنيسة، واحتفظ بملابسه العادية كأي رجل مدني في المجتمع، وكان لوالده موقف نقدي من تمجيد الصليب، وكان يراه رمزاً لا يجوز تبجيله ولا التفنن في صنعه وترصيعه بالجواهر. وكان والده يسخر من الكنائس الإنجليكانية في بريطانيا لأنها تستعمل لنوافذها زجاجاً ملونا، أما كنيسة والده في طبريا فكانت فارغة تماماً إلا من المقاعد والمنبر وصليب صغير، وكانت جدرانها عارية من أي صورة أو تمثال أو أيقونة أو زينة.

عندما كتب أنيس سيرته وأهدى نسخة إلى عزمي بشارة، تحدثا بتوسع عنها وتعهد بشارة أن يكتب عنها وعن سيرة شفيق الحوت لأنه وجد مشتركاً قيمياً وإنسانياً واسعاً بين أكثر شخصين اختلافاً في الطباع الشخصية. وقال له عبارة حينها هي موضع الاستشهاد، جملة فرح بها أنيس، لكن بشارة قصد فعلاً أن يطرح موضوعاً ما زال يشغله وما زال يفكر به، كمعضلة فكرية للنقد الأدبي قال: "لماذا كلما كتب الكبار عن طفولتهم يخرج من بين أيديهم أدب من دون أن يدروا؟" (وأنيس كبير، ولكن بشارة يقصد هنا كبر السن تحديداً)، ونرى بشارة يوضح ذلك أنه شعر أنه يقرأ أدباً جميلاً عندما قرأ الفصول الأولى من مذكرات أمثال كمال الصليبي، وشفيق الحوت، وأنيس الصايغ وأحمد الخطيب وغيرهم. وينصحنا بشارة بمراجعة تلك الفصول الأولى عن طفولتهم. "فهي ليست كسائر أجزاء الكتاب، إنها أدب جميل، بكل تعريف للجمال في الأدب." [1]

وصف أحد الكتاب أنيس بأنه ولد والقلم بين أصابعه، ولعل في التعبير المجازي بعض الحقيقة، فأنيس لم يقم في حياته بأي نشاط إلا وكان القلم أداته الأولى وكانت الكتابة هي الوسيلة

 

ولد والقلم بين أصابعه

وصف أحد الكتاب أنيس بأنه ولد والقلم بين أصابعه، ولعل في التعبير المجازي بعض الحقيقة، فأنيس لم يقم في حياته بأي نشاط إلا وكان القلم أداته الأولى وكانت الكتابة هي الوسيلة، وهو يعرف نفسه في سيرته بأنه كاتب، ولا يعترف بمهنة إلا مهنة الكتابة، حتى عندما درس في بعض الجامعات في فترات متقطعة بقي يحوم في سماء الكتابة ويعوم في بحار الحبر والورق.

يعترف كاتبنا بأنه يكره الدرس كطالب ويكره التدريس طوال حياته، بل إنه يعترف بأن أبشع ذكرياته هي التي تتعلق بالتلمذة والأستذة في المدرسة والكلية والجامعة، وبأن معاهد التعلم والتعليم كانت أبشع الأماكن التي اضطر إلى أن يتردد عليها. وأن انقضاء ساعات التدريس اليومية كانت أجمل لحظات النهار، فقد كان يرى شعور الطلاب بالملل والشرود والنعاس وهو يحدثهم عن تاريخ لبنان.

بعد التخرج في الجامعة 1953، وحتى التحاق أنيس بجامعة كمبردج 1959، أصبحت الكتابة شغله وأصبحت مصدر رزق، كان أعزب ويقيم مع أسرته وكانت مصاريفه على بنود ثلاثة فقط: تذاكر السينما واقتناء الكتب وشراء ربطات العنق، وكانت هذه الثلاث هواياته الوحيدة تقريباً. وفي صيف العام 1951 نال أول مكافأة في حياته على عمل ثقافي قام به، بتكليف من الدكتور عزت طنوس، المناضل الفلسطيني الذي أسس المكتب العربي الفلسطيني، وطلب من أنيس أن يعد قائمة شاملة بمصادر القضية الفلسطينية مراجعها ووثائقها، فقام بالعمل، وهو يتوقع أن إسهامه مجاني، لكنه حصل على حوالة بمبلغ ألف ليرة لبنانية، وكان مبلغاً سخياً في حسابات ذلك الزمان.

يحكي لنا قصة طريفة عن اضطراره لترجمة بعض الكتب التي لا تروق له بسبب الحاجة للمال، ثم بحثه عن حل يدر عليه المال، فنصحه أحد الناشرين في بيروت، بأن يكتب موسوعة جنسية بعنوان جذاب ورصين، وسماها دائرة المعارف الجنسية، وإن اعترف بكون خبرته في هذا المجال ضعيفة، ولخجلهم من نشر اسمهم وضعوا اسما مستعارا.

في عام 1959 تزوج هيلدا، وسافر إلى كمبردج، ويصف هذه السنوات الخمس في كمبردج بأنها كانت أجمل سنوات حياته، وهو يعيد الفضل في ذلك إلى المدينة وطبيعتها وناسها ومناظرها وتقاليدها وفنونها، وكان يدرس الطلاب الدراسات العربية، وهم من النوع الذي يطمح في العمل في مجالات تتطلب معرفة العرب والعربية، كالسلك الدبلوماسي والشركات العالمية، لذلك كان يمازح طلابه ويسميهم "جواسيس المستقبل"، وكان يذكرهم بقصة المستشرق بالمر وهو من أوائل أساتذة الدراسات المشرقية في كمبردج، قتله الوطنيون في سيناء عام 1881، وهو يتجول في ديارهم بحجة البحث عن الآثار، واتهموه بالتجسس.

في عام 1959 تزوج هيلدا، وسافر إلى كمبردج، ويصف هذه السنوات الخمس في كمبردج بأنها كانت أجمل سنوات حياته، وهو يعيد الفضل في ذلك إلى المدينة وطبيعتها وناسها ومناظرها وتقاليدها وفنونها

بل إن الدبلوماسي الصهيوني أبا إيبان، الذي أصبح وزيرا لخارجية إسرائيل، قد شغل المنصب الذي شغله أنيس قبله بعشرين سنة، حيث كان أبا إيبان يتقن العربية، وهو الذي ترجم توفيق الحكيم إلى الإنجليزية. وتشاء الصدف أن يحصل أنيس على مكتب شغله قبله بسنوات طلاب الدراسات الشرق أوروبية، وكان بينهم أربعة ثبت فيما بعد أنهم كان يتجسسون لصالح السوفيات ضد بريطانيا، واشتهر أحدهم وهو كيم فيلبي، وقد فر من بريطانيا إلى لبنان ومنها إلى موسكو، وهو ابن المستعرب البريطاني سانت جون فيلبي الذي أسلم وعرف باسم الحاج عبد الله فيلبي، ويحكي أنيس أنه التقي بكيم عدة مرات وأنه كان مؤيداً لهتلر ويعارض سياسة بلاده الخارجية المحابية للصهيونيين.

كان الطلبة الذين درسهم في كمبردج بريطانيين باستثناء واحد، هو الأمير رعد بن زيد بن الحسين الهاشمي، الذي تولى منصباً في القصر الملكي في عمان، ومن خلال معرفته بالمستشرقين والمهتمين بالدراسات العربية في بريطانيا يخبرنا أنيس الصايغ أنه باستثناء دنس جونسون دافز، لا يعرف مستشرقاً بريطانياً واحداً يستطيع أن يقول عنه إنه يتقن العربية كما يتقن أحدنا اللغة الإنجليزية، وديفز هو الذي ترجم العديد من روايات نجيب محفوظ إلى الإنجليزية.

في الكتاب حديث عن سياق تأليفه العديد من الكتب مثل "لبنان الطائفي" وكتاب "الأسطول البحري الأموي في البحر المتوسط"، وحديث عن ظروف كتاباته عن الهاشميين ومنع كتبه في الأردن ومنعه من دخولها، ثم يأخذنا في جولة للتعرف إلى تجربته في العمل في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، واستلم العمل في مركز الأبحاث يوم 7/8/1966 واستمر فيه لمدة عشر سنوات، ذاب المركز فيه مثلما ذاب فيه، وتحول لناسك في صومعة مركز الدراسات، وأصبح المركز في عيون الناس هو أنيس صايغ، ويقدم لنا تجربته الثرية في العمل كرئيس تحرير لعدد من المجلات، فقد رأس تحرير عدد من المجلات الرائدة (شؤون فلسطينية، ومجلة شؤون عربية والمستقبل العربي وقضايا عربية وغيرها)ـ فضلاً عن دوره المهم في الموسوعة الفلسطينية.

هكذا نرى أنيس صايغ رجلاً لا يعرف إلا الكتب والعمل الثقافي والنضال، فقد يكتب الناس مذكراتهم ويعبرون فيها عن بعض أشجانهم وخواطرهم النفسية أو بعض العاطفة وأحيانا اعترافات، أما هذا الرجل فنراه من خلال سيرته ينتعش بالعمل والمشاريع الثقافية وتحرير المجلات وإصدار الكتب والموسوعات، والعمل من أجل فلسطين، وقد حبس كاتبنا نفسه في عالم الكتابة بكل أصنافه بداية من المقالة الصحافية إلى تأليف الكتب والترجمة وإعداد الموسوعات والقواميس وتحرير المجلات والزوايا الصحافية وإدارة مراكز البحوث والإشراف على ما يكتبه الآخرون، هذا عالمه الذي يعتز به، والذي أزعج به إسرائيل لترسل له طرداً بريدياً مفخخاً انفجر بيديه مما أفقده جزءاً من سمعه وبصره وفقد ثلاثة أصابع من يده اليسرى، كما تضررت يده. وفي 14/12/1974 أطلقت ثلاثة صواريخ باتجاه مركز الأبحاث كادت تودي بحياته وحياة من فيه، ولعل تجربته تستحق القراءة عنها باستمرار ومراجعة إرثه وتجربته في مركز الدراسات الفلسطينية.

لقد سخر إميل حبيبي من أنيس صايغ قائلاً عنه إنه "المثل الأعلى للمفكرين بلا فكر!" وذلك لأن أنيس كان يكتب كلمة "إسرائيل" ضمن مزدوجين، ورد أنيس صايغ قائلاً: "إن بصري مهما ضعف يظل يرى (إسرائيل). يراها في وحشيتها وجرائمها وألاعيبها وأكاذيبها ومؤامراتها. العينان المنطفئتان تريان (إسرائيل) أفضل مما تراها العيون السليمة المعافاة. ولأني أرى (إسرائيل) هكذا أعتبر وجودها حالة غير طبيعية وغير أصيلة وغير صحيحة. القوسان ليسا عجزاً عن رؤيتها بل هما رفض قاطع لوجودها، إنهما إعلان لموقف مبدئي معين، ثابت وحاسم، أنا (العبارة لأنيس) لا أنكر وجود (إسرائيل) بهذين القوسين بل أنكر حقها في الوجود، ولأني أنكر حقها في الوجود أدعو إلى إزالتها".

 


[1] في ذكرى أنيس../ د.عزمي بشارة