أنفاسي الأخيرة: مذكرات لويس بونويل

2019.10.24 | 16:36 دمشق

luis-bunuel.jpg
+A
حجم الخط
-A

هذه هي القراءة الثانية لمذكرات المخرج لويس بونويل التي صدرت عن وزارة الثقافة السورية بترجمة رائعة لمروان حداد، قرأتها للمرة الأولى وأنا في سنوات الجامعة وأعدت قراءتها بنفس المتعة. تبدأ المذكرات بحديث عن الذاكرة في حياة الإنسان، ويحكي بونويل قصة مؤثرة عن والدته التي فقدت ذاكرتها فكانت تطلب المجلة منه لتقرأها، ثم يأخذ المجلة ويقدمها لها وتقرأها بنفس الشغف والاهتمام وهي نفس المجلة التي قرأتها قبل أيام. فهو يشعر بالقلق والضيق من ضعف ذاكرته لذلك يبادر بالكتابة عن حياته، إن حياة بلا ذاكرة ليست بحياة، فالذاكرة هي تماسكنا، عقلنا، حركتنا، شعورنا، ومن دونها لسنا شيئاً، والكتاب هو عبارة عن الذكريات.

قرية من العصور الوسطى

ولد لويس بونويل عام 1900 في قرية كالاندا في إسبانيا، وهو يحكي لنا أن ظلال حياة العصور الوسطى ظلت في قريته إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، فقد كانت قرية ومجتمعاً منعزلاً وساكناً. الفوارق الطبقية واضحة جداً، تخضع الطبقة العاملة للسادة الإقطاعيين، وكانت هناك أجراس الكنيسة التي تظهر عند موت أحدهم وفي القداسات والصلوات، ولا وجود للغرباء في هذه القرية الوادعة، ولم تشاهد القرية سيارة واحدة حتى عام 1919، وانتشرت في القرية خرافات معجزات القديسين.

كانت أسرته تتناول العشاء في حديقة البرج ويعودون آخر الليل، حياة كسولة، لا يتهددها شيء. لقد كانوا آخر ممثلين للنظام القديم، فهناك ندرة للمبادلات التجارية، وإطاعة تامة لدورات الحياة، وسكون للفكر. كانت معاصر الزيت هي الصناعة الوحيدة في هذه المناطق، وكانت المواد الأخرى مثل الأقمشة والصناعات المعدنية تصلهم من الخارج، والمجتمع يعيش على الزراعة، وتوجد حرف يدوية تغطي حاجات الناس.

لعل وصف بونويل لقريته يذكرنا بحديث ستيفان تسفايج عن عالم الأمن قبل الحرب العالمية الأولى في ڤيينا، فالعالم في وجدان الناس قبل الحرب العظمى مترامي الأطراف، ويهزه العديد من الأحداث لكن لم يكن يتأثر الجميع بها وقلما تثير اهتمامهم، فالأخبار لا تصل إلا بعد مرور وقت طويل من انقضاء الحدث.

تعرف بونويل على شقيق عبد الكريم الخطابي في مدريد، وكان هذا سبباً في أن الإسبان رغبوا في أن يقوموا بإيفاده في مهمة في المغرب لكنه رفض، وانضم لمدة عام للجيش.

في المراهقة درس بونويل في مدارس اليسوعيين ومن خلال الكتب زاد مجال اطلاعه، واكتشف سبنسر وروسو وحتى ماركس، أما قراءته لأصل الأنواع لداروين فقد بهرته وأكملت فقدانه لإيمانه.

مدريد: المدينة الجامعية 1917-1925

ينتقل لويس بونويل لمدريد للدراسة في المدينة الجامعية، حيث تتاح له الفرصة لرؤية العديد من الأدباء وصداقة الفنانين، كانت إسبانيا تعيش في تلك الأيام فترة هادئة نسبياً. كان الحدث الكبير ثورة عبد الكريم الخطابي في بلاد المغرب، وكذلك الإخفاق الكبير الذي عانت منه القوات الإسبانية في "أنوال" 1921. تعرف بونويل على شقيق عبد الكريم الخطابي في مدريد، وكان هذا سبباً في أن الإسبان رغبوا في أن يقوموا بإيفاده في مهمة في المغرب لكنه رفض، وانضم لمدة عام للجيش.

خلال ليالي المناوبة، تعرف على أمر جديد عليه وهو "الحسد" فقد كان الجنود خلال فترات لحراسة، ينامون بألبستهم، بل حتى بأسلحتهم، وتصيبهم حشرات البق ويعانون من البرد، أما في الغرفة المجاورة فقد كان ضباط الصف يلعبون الورق، إلى جوار مدفأتهم الكبيرة، وهم يتناولون كأساً بعد آخر من النبيذ الجيد. كان أكثر ما يرغب فيه بونويل خلال تلك اللحظات هو أن يكون ضابط صف ويتمتع بالدفء، ومن بين الخطايا السبع يكره بونويل الحسد بشكل حقيقي، فالحسد هو الخطيئة الوحيدة التي تدفعنا، بشكل لا يمكن تفاديه، إلى أن نتمنى الموت لشخص آخر تجعلنا سعادته تعساء.

في هذه السنوات تعرف بونويل على رفائيل ألبرتي، وعلى الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا، وعلى الرسام سلڤادور دالي. يصف بونويل لوركا بأنه لامع ولطيف، مع ميل واضح للأناقة، وأنه كان ذو جاذبية ومغناطيسية لا يمكن لأحد مقاومتهما. قدم لوركا إلى مدريد للدراسة ثم انخرط في الحياة الأدبية. وعلى الرغم من تناقض شخصيتيهما، إلا أنه نشأت صداقة بين بونويل الأرغوني الفظ ولوركا الأندلسي الصافي، وقد أمضيا معاً ساعات كثيرة، ولقد استفاد بونويل من صداقة لوركا في التعرف على الشعر، خاصة الشعر الإسباني، وعرَّفه لوركا على الكثير من الكتب، ويحكي لنا بونويل أن لوركا لم يكن يؤمن، إلا أنه تربى على مفهوم فني عميق للدين.

أما الصديق الآخر فقد كان الرسام السريالي سلڤادور دالي، وكانوا يدعونه في المدينة الجامعية بالرسام التشيكوسلوفاكي للسخرية منه، وذات صباح كان بونويل يمر أمام غرفة دالي وكان الباب مفتوحاً، ورأى بونويل لوحة بحجم كبير وأعجبته جداً، وفي الحال ذهب إلى لوركا والآخرين ليقول لهم "الرسام التشيكوسلوفاكي يعمل على إنجاز لوحة جميلة جدا".

حصل بونويل على شهادة الإجازة في الفلسفة، وعاش حياة صاخبة قضاها في النزهات والسكر والأدب بصحبة لوركا ودالي، وكان يود الرحيل عن مدريد لكنه انتظر الفرصة التي لاحت بوفاة والده عام 1925

في الكتاب وصف لشخصية دالي، فهو فتى خجول، ذو صوت أجش وعميق، وشعر طويل قام فيما بعد بتقصيره. كان لديه ذوق غريب في الملابس، وكان يعطي الانطباع بأنه يفعل ذلك بدافع الإثارة أو لفت الأنظار، لكن بونويل يقول إنه كان يفعل ذلك بكل بساطة، لأن ذلك يروق له، ويتعرض لشتائم الناس في الشارع بسبب مظهره الغريب. كتب دالي الشعر وشارك مع لويس بونويل في كتابة سيناريو فيلمه "كلب أندلسي". وفي إحدى المرات كان على دالي أن يتقدم للامتحان في كلية الفنون الجميلة، وجلس أمام هيئة الامتحان الشفهي وصرخ: "لا أعترف لأي من الجالسين هنا بالحق في امتحاني، أنا ذاهب"، تعرضت صداقة بونويل ودالي للهشاشة بعد ارتباط دالي بغالا وأصبح عاشقاً لرائحة الدولار.

حصل بونويل على شهادة الإجازة في الفلسفة، وعاش حياة صاخبة قضاها في النزهات والسكر والأدب بصحبة لوركا ودالي، وكان يود الرحيل عن مدريد لكنه انتظر الفرصة التي لاحت بوفاة والده عام 1925.

باريس 1925-1929

اندهش بونويل من الحياة في باريس، اندهش من تبادل القبلات في الشارع، هذا التصرف الذي كان يفصح عن هوة بعيدة ما بين فرنسا وإسبانيا، وكذلك إمكانية أن يعيش رجل وامرأة معاً دون زواج. كانت باريس العاصمة الفنية للعالم، جمعت خمسة وأربعين ألف رسام.. ذلك الرقم المدهش.

وفي أحد الاستوديوهات تعرف بونويل على بيكاسو الذي كان مشهوراً، وبدا لبونويل أن بيكاسو بارد وأناني، ويعلق بونويل أنه لا يحب لوحة "غيرنيكا" ولا تعجبه على الإطلاق، على الرغم من أنه ساعد على تعليقها. ينفره كل ما يتعلق بها سواء الفاتورة الجلية لأعمال بيكاسو، أو التسييس على حساب فن الرسم، وقد مزح بونويل مع أحد أصدقائه أنه يتمنى لو يفجر الغيرنيكا، لكنه أصبح مسناً ولا يستطيع القيام بذلك.

لا يكتفي لويس بونويل بسرد تجاربه مع الحانات، لكنه يتحدث عن تجربته مع التدخين والتبغ وعن الرغبة والحب في مذكراته الصريحة

يحكي بونويل قصصه بسرد جميل وبخفة ظل تجعلك تبتسم وأحيانا تضحك من روحه اللطيفة. يخصص فصلاً عن الحانات، فهي المكان الذي قضى فيه ساعات حلوة، ولا يتخيل الحياة من دونها، ولا تتماثل الحانة لديه مع المقهى، والمقهى بالنسبة له ثرثرة، ولقاءٌ بالقادمين والذاهبين والصخب النسائي، أما الحانة فهي مكان مناسب للتأمل والعزلة، لا يكتفي لويس بونويل بسرد تجاربه مع الحانات، لكنه يتحدث عن تجربته مع التدخين والتبغ وعن الرغبة والحب في مذكراته الصريحة.

في الكتاب حديث عن ظروف كتابته وإخراجه لأفلامه العديدة، وعن أثر الأحلام على حياته. ويشرح بونويل باستفاضة عن علاقاته بجماعة السرياليين الذين انتمى إليهم في باريس، ثم انتقال بونويل لأمريكا وبالتحديد إلى هوليوود وهو يفصل في حياته وتجربته في تلك الفترة، ويصف لنا تعرفه على شارلي شابلن وشخصيته، ثم سفره إلى المكسيك، حتى الكتب التي يحبها مثل دون كيشوت وكتب الماركيز دو ساد، والكتب التي لا تعجبه مثل الكوميديا الإلهية لدانتي، وحبه لموسيقى ڤاغنر. ولا يفوته أن يعلن أنه لا يستلطف العميان وبالأخص خورخي لويس بورخيس، فهو متغطرس وعابد لذاته ويهتم بأجوبة تلفت انتباه جائزة نوبل له. أكثر ما يكره بونويل في حياته الحذلقة والرطانة، هذه الظاهرة الباريسية المعروفة، وكذلك التكلف، لذلك لا يعجبه الفولكلور الرسمي المنظم. ويعلن بونويل أن الكثير من الأدباء الأمريكان لم يكونوا شيئاً لولا المدافع الأمريكية ومن هؤلاء شتاينبك وهمنجواي، إنها سلطة البلد الذي يقرر من هم الكتاب العظام.

 إنها مذكرات ممتعة تدخلك في أجواء هذا العصر بصراعاته وأحداثه، والترجمة ممتعة ولا تخذلك إنه قلم مروان حداد.