أنثروبولوجيا التخلّف- شعوبٌ لا تعنيها قضاياها

2021.01.25 | 00:01 دمشق

12.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا أجدُ عبر التاريخ مثالا أو حالة من نجاح تبرر وتدعم رأياً قائلًا بقدرة كاتبٍ أو مفكرٍ أو باحث، ومثقفٍ بالعموم أن يقف في وجه مجتمعه بصفته "فرد"، أيًا كان ومهما امتلك من هم أو عزيمة لإصلاح هذا المجتمع، أو أقله أن يجعل من هذا المجتمع مناصرًا لقضية تتعلّق بإحياء هذا المجتمع أو وضعه لنقل على سلّم النهضة ليصل لمراقي التحضر.

مناسبة القول، هو الصور التي انتشرت في الأسبوع الأخير عن حال مخيّمات اللجوء للسوريين في دول الجوار، وكيف فاقت الصور التي التقطها أهل المخيمات أو مصورون هواة كل إمكانيات الإبداع وتجلّياته من الرسوم بالفحم على جدران الكهوف الصخرية، وحتى آخر تقنيات كاميرات 4D ومبدعيها المعاصرين، بزّت هذه الصور بما نقلته من تفاصيل الألم والحيّف الذي تعاون العالم كلّه في صناعته عبر عقد من الزمان ليعيشه السوريون كما نراه اليوم وليس لنا حولٌ أن نمعِن النظر في هذه الصور!

يهتف جمهور الفريقين بكل ما آتاهم الابتعاد عن القضايا المركزية والحضارية من قوة مطالبين مرةً الحكم بالعدل ومرةً الخصم باحترام أصول اللعب النظيف

لوقت غير بعيد كنتُ أرى بمحمد الماغوط الأديب الذي حمل مهمة الأدلجة لعصر حافظ الأسد، بمنهج البصاق على أي أمل يمكن أن ينبثق بهذا الشعب الذي يمكن أن يصنع نهضة ذات يوم! فالشعب الذي لا يجيد أبسط بدهيّات الحياة عند الماغوط بأن يركب الباص بطريقة صحيحة، فيصعد من الباب الأمامي وينزل من الخلفي هو شعبٌ غير خليقٍ به أن يتصدى ويواجه المؤامرات التي تحاك له، أو أن يقاوم من اغتصب أرضه. فيمكن للأنثروبولوجيا هنا أن تسعفنا لنفكك في المقام نفسه رؤيا الماغوط للشعب السوري، فلم يكن سهلًا بالنسبة لي تبرئة الماغوط من دعواه هذه بحق شعب بلدي، إلّا في الأيام الأخيرة، حين قادتني الصدفة لمتابعة فيديو يلخص المواجهة الحاسمة والحرجة بين الأصفر والأحمر، أي بين فريقي تشرين والطليعة، اللاذقاني والحموي، ودرجة الاهتمام والحرفية التي أبداها جمهور الفريقين في توقع النتيجة وتحليل أداء الفريقين عبر مسيرة الدوري السوري. من المشاهدات التي حرّضت عندي كثيرا من الألم على هذا الواقع الذي وصلنا له اليوم، مشهد رئيس المشجعين الذي يرتفع على أكتاف "الفانز" محييّا الكنزة الحمرا بأهزوجةٍ تقترب من صوت غير مفهوم بلازمةٍ مكررة "حيوا الكنزة الحمرا"، ويرد الجمهور الأصفر بحمل لافتاتٍ عرضية تناهز لافتات الدوري الأوروبي، ويتقدم خلفها حشدٌ من المشجِّعين الأكابر والملتزمين بقضايا فريقهم واحترام المستضيف على أرضه وخصوصياته التي يفرضها التاريخ الطلعاوي وجمهوره الأكثر من عنيد في تأييد مواقفه على مستوى الدوري السوري.

يهتف جمهور الفريقين بكل ما آتاهم الابتعاد عن القضايا المركزية والحضارية من قوة مطالبين مرةً الحكم بالعدل ومرةً الخصم باحترام أصول اللعب النظيف، الحالة التي أعادت إلى ذهني والدمعُ يتناهبني مظاهرات 2011 وما بعدها، وقارنت بين ذلك الشعب وهذا الشعب! بين من كان يطالب بالحريّة والكرامة والوطن الذي ينعم كل أبنائه بالعدل تحت سمائه الحرّة أرضه المستقلّة وصاحبة السيادة، وبين هؤلاء المشجعين "السوريين" وبدأت أرى فيهم سدًا منيعًا أمام تحرك البلد نحو التحضّر، وبرغم كل ما للرياضة من سمات تطبع المجتمعات بروح التسامح والترفيه ذو الأبعاد الاجتماعية الصحية تركني هؤلاء الحماسيون أن أراهم صفًا رديفًا للشبيحة التي سفكت دم الأبرياء فقط لأنهم عبيد لا يسمعون سوى صوت سيدهم ولا يتخيلون سوريا سوى مزرعة السلطان التي تسمح بأن لا يكون فيها سوى من يشبههم في كل ما  للعبودية من معنى.

سمح لي هذا الجمهور الرياضي أن أرى أناسًا في بلدي لا يعنيهم بل ولا يعرفون أن هناك على أرض البلد نفسه لاجئين أكل الصقيع والطين أطراف أصابعهم الصغيرة! وخيماً لم تسمح رغم كل رحمة الطبيعة بأن تنعم هذه الأرواح الصغيرة البريئة بالقليل من الدفء الذي يجود به تراب الخيمة الجاف! قبل أن يختلط به ماء حرارته تحت القصف.

هل حقق هؤلاء ما أرادوه يومًا بطرد كل من خرّب حياتهم حين طالبوا بالحريّة يومًا، من سوريا وارتاح بالهم اليوم؟

تركني هؤلاء "المواطنون" حسب ما يصنِّفهم الدستور المعمول به الآن في سوريا، أن أسأل: أي وطن يناسب هؤلاء؟ دون إخوةٍ لهم في المخيمات؟ وما القضايا الوطنية الكبرى التي يناصرونها؟ ما هي القضايا التي تعنيهم، بصرف النظر عن قضيّتهم في دعم "الكنزة الصفرا والحمرا" حتى الموت؟ هل مرّت الثورة يومًا على هؤلاء أو بباب حاراتهم ومدنهم؟ هل يعرفون عن قيم العدل شيء؟ وإن كان، فما هو رأيهم بقضايا مواطنيهم؟ وأي عقدٍ اجتماعي نريد ويناسبنا في سوريا؟ إن كان هذا السد المنيع من البشر يكبر يومًا بعد يوم في سوريا بيننا وبين التحضّر والوطن الحر السيّد العادل بين كل أبنائه. وهل حقق هؤلاء ما أرادوه يومًا بطرد كل من خرّب حياتهم حين طالبوا بالحريّة يومًا، من سوريا وارتاح بالهم اليوم؟؟؟ على أي حال وبناء على ما سبق هذه شعوبٌ لا تعنيها قضاياها، فالتخلّف وهو ليس زائرٌ طارئ، ولا فارض ظلّه عليهم دون إذن...

كلمات مفتاحية