icon
التغطية الحية

أمير البزق.. رقة حسنك وسمارك

2021.02.23 | 17:22 دمشق

body-img.png
إسطنبول - خطيب بدلة
+A
حجم الخط
-A

لا شك أن افتتاح إذاعة دمشق، يوم 3 من شباط 1947، كان حدثاً استثنائياً بالنسبة للشعب السوري، وقد بدأ الإرسال بكلمة تاريخية لرئيس الجمهورية شكري القوتلي، وبعد ذلك قدم الفنان الشعبي حكمت محسن مونولوجاً ضاحكاً، وأما أمير البزق محمد عبد الكريم (1911- 1989)، فهو الذي وضع الشارة الموسيقية لهذه الإذاعة، وأصبح موظفاً فيها لفترة طويلة، وما تزال له في مكتبتها تسجيلاتٌ نادرة.

لا تسبعدنْ أن يسألك قارئ يعيش في أيامنا عَمَّن يكون محمد عبد الكريم، وإذا قلتَ إنه أمير البزق، فقد يبادر إلى القول إن كلمة "أمير" فهمناها، ولكن ما هو البزق؟ وهذا يدل على أننا نحن السوريين مقصرون بحق مبدعينا الكبار، قناديلنا التي أضاءت دروبنا زمناً طويلاً، ولكننا تركناها مركونة تحت ركام الزمان..

إن آلة البزق من الآلات الموسيقية الوترية النادرة، ولكن، ثمة سوريون أبدعوا فيها، لعل أبرزهم في العصر الحديث سعيد يوسف، إضافة إلى محمد عبد الكريم، وبناء على ذلك يحق لنا أن نتحدث عن آلة موسيقية لها في بلادنا تاريخٌ جدير بالاهتمام.

الأفضل أن نمشي في سيرة محمد عبد الكريم، هذا الرجل العبقري، على مبدأ الـ خطوة خطوة، ونقول إنه، مثل حكمت محسن، جاء من عالم الناس الهامشيين، الذين يبدون وكأنهم بلا مستقبل، ولكنهم، بما يملكون من مواهب عظيمة، وضعوا أقدامهم على سلم المجد، وبدؤوا بالصعود عليه، حتى وصلوا قمته، وتجاوزوها، وملأ صيتُهم الآفاق، وأصبحوا من أصحاب الألقاب ذات الشأن الرفيع.

في سيرة محمد عبد الكريم واقعةٌ تقول إنه زار، ذات يوم، بغداد، وعزف على البزق بحضور ملك العراق فيصل، وأن هذا الأخير أُعجب بعزفه، وهتف له: أنت "أمير البزق"، ثم منحه فرماناً بهذا اللقب.. برأيي أن هذه الحادثة ليست بالغة الأهمية، فرأي الملوك، بالنسبة لتقويم الفن، لا يتجاوز رأي المستمعين العاديين، وأما الرأي الذي يعتد به فهو رأي السميعة المختصين.

يقول الناقد الموسيقي جورج روفائيل، وهو مؤلف موسيقي وملحن شهير، يدرسّ في المعهد الوطني العالي للموسيقا "الكونسرفتوار" ببيروت، إن محمد عبد الكريم عازف لا يُجارى في التقنية. ويروي عنه الحكاية التالية: أتت إلى إذاعة دمشق، في الخمسينات، فرقة موسيقية تشيكية، ورأى أعضاؤها محمد عبد الكريم بجسده الصغير حاملاً آلة البزق التي كانت أطول منه، فضحكوا من هذا المنظر الكاريكاتيري، ولكن، عندما بدأ العزف ذهلوا، وأجلوا المباشرة بعملهم الذي كان مقرراً أن يبدأ في الساعة التاسعة، إذ أسرهم محمد بعزفه، وصاروا يقولون: يا لهذا العازف. يا لهذا التقنية الهائلة!

لا بأس من الإشارة إلى أن محمد عبد الكريم ذو أصول غجرية، وأن والده كان عازفَ عود، يعمل في الأفراح، وكان يأخذه معه، ليعزف إلى جانبه على البزق، وأنه سافر إلى دمشق، وهناك تعرف على الفنان "أبو شاكر" الذي يعمل في مقهى النوفرة، ويقدم خيال الظل، وصار يرافقه على البزق.. ولكن القصة الأكثر طرافة وجمالاً هي قصته مع المطربة نجاح سلام، والأغنية الخالدة التي لحنها لأجلها: رقة حسنِك وسَمَارِك.

بحسب ما تروي نجاح سلام، في تسجيل إذاعي نادر، أن والدها محي الدين سلام، (وهو أديب ومؤلف موسيقي، كان يعمل رئيساً للدائرة الموسيقية في الإذاعة، وكان منزله يغص برواد الفن والهواة، فيبدو وكأنه معهد موسيقي) اكتشف محمد عبد الكريم في صحراء حمص، وأحضره معه إلى بيروت، واستضافه في منزله، ولأنه كان صغير الحجم ارتأت والدة نجاح "أم عصام" أن ينام في سرير طفلتها "نجاح"، وصار إذا بكت الطفلة يعزف لها على البزق فتسكت، وتنسجم، ثم تنام، فقال لوالدتها: ابنتك ستكون فنانة!

وتمر الأيام، والسنون، حتى سنة 1948، وفي هذه الأثناء تكون نجاح سلام قد انطلقت في عالم الغناء، وتلتقي بمحمد عبد الكريم في بيت "الجزائري" بدمشق، ويقول لها:

- إنتي عم تغني أغاني أقل من مستوى صوتك. منشان هيك أنا بدي أعطيكي أغنية بتليق بصوتك.

وقدم لها أغنية: رقة حسنك وسمارك.

كانت نجاح سلام، ككثيرين غيرها من المطربين اللبنانيين، قد انطلقت من إذاعة دمشق، وبعد أن تدربت على أغنية "رقة حسنك وسمارك"، جرى تسجيلها في استوديو الإذاعة، على الهواء مباشرة، كما كانت العادة في تلك الأيام.

لا يكفي أن نقول إن الأغنية، بعد إذاعتها، (كسرت الأرض)، أي حققت تفاعلاً ونجاحاً كبيرين، الأهم من هذا هو السؤال: كيف صمدت في وجه عاديات الزمان حتى الآن، أي بعد مضي 73 سنة على تسجيلها؟

يقول الباحث الموسيقي ميسر شتات إن لحن "رقة حسنك وسمارك" سهل ممتنع، وفريد، يتألف من أربعة مقاطع، الأول والثاني جاءا على مقام البيات، بشكل سلس، ومتدفق، وينتقل في الكوبليه الثالث إلى الراست، وأما الكوبليه الرابع فمن مقام الصبا.. ومع أن الأغنية قصيرة نسبياً (13 دقيقة تقريباً)، إلا أنها تجاري في تقنياتها الأغاني الطويلة التي كانت تحتل الساحة في تلك الأيام. الجملة الموسيقية عند محمد عبد الكريم لا تشبه أية جملة أخرى، والطريف في هذه الأغنية أمران، أولهما أن المستمع لا يشعر بانتقال الملحن من البيات إلى الراست، فيبدو الأمر وكأنه مجرد انزياح في نغم البيات، والثاني هو الإيقاع، حيث استخدم إيقاع (اللف) الذي يُستخدم عادةً للرقص، والأمير محمد يبقيه مستمراً على مدى المقاطع الأربعة، ويستخدمه للتطريب وليس للرقص، وهذا أمر نادر في التلحين العربي، وحينما يصل إلى مقام الصبا نلاحظ أن الشغل الموسيقي فيه صعب جداً، إضافة إلى أنه في لحظة الانتقال من الراست إلى الصبا، وتحديداً عند قول المطربة (ولو أنه كان أول نظرة) يمر بمقام العجم، وهذا من شأنه أن يرفع سوية التطريب عالياً.  

كتب الصحافي محمد العمر على موقع "سناك" عن زيارة محمد عبد الكريم للقاهرة، وهي، كما هو معلوم، مركز الاستقطاب العربي والشرقي الأول، وكيف أدهش بعزفه كبارَ فناني مصر مثل زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، وأم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب، وأن عبقريته في اللعب على أوتار البزق بما لا يتوقعه الآخرون من أساليب جديدة فتحت له أبواب المجد، فجاءه، في سنة 1927، رجل ألماني يدعى "ليتوباروخ"، وعرض عليه، بصفته وكيلاً لشركة "أوديون" الألمانية، السفرَ إلى ألمانيا لتسجيل أسطوانات عزف على البزق، إلا أنه رفض العرض في ذلك الوقت، وفيما بعد خاض تجربة السفر وذهب إلى ألمانيا، فيحصد منها خيبة ونجاحاً، فقد خاب أمله في علاج حدبة ظهره حين أخبره الأطباء أن عليه التعايش مع الإصابة لعدم وجود علاج ناجع، لكنه في الوقت ذاته سجّل مع الشركة الألمانية 5 أسطوانات من معزوفاته وارتجالاته المدهشة.