أميركا الجديدة والغرق الروسي في رمال سوريا المتحركة

2018.08.31 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لم يخطئ مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون في توصيف وضع روسيا في سوريا، حين أعلن في تصريح له بأنها غارقة وتبحث عن مساعدة. كان هذا التصريح مفاجئا، لأنه يتناقض مع مناخ الانكفاء الأميركي الذي سمح لروسيا بإحكام السيطرة على الوضع الميداني في سوريا. لم تكن تصريحات بولتون سوى مقدمة افتتاحية لمسار أميركي جديد، يعمل على تفكيك النفوذ الروسي في سوريا تمهيدا لضرب الحضور الإيراني.

مشروع تحجيم النفوذ الروسي اتخذ شكل إطلاق حزمة مسارات متزامنة، أعاد فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب وصل العلاقات مع أوروبا، بعد حقبة من التوتر الشديد على خلفية  الخلاف حول مصير النظام السوري،والمواقف المتناقضة بشأن العقوبات على إيران.

كانت المواقف الأوروبية السابقة قد اعتمدت وجهة نظر تعتبر أن التعامل مع النظام السوري شر لا بد منه، وأن العقوبات على إيران ستؤسس لحالة توتر اقتصادي وتصعيد عسكري تؤثر سلبا على الاقتصاد الأوروبي، وتعطل الحلول في ما يخص عودة اللاجئين إلى سوريا، ومنع تدفق موجات جديدة منهم إلى أوروبا.

المسار الأميركي الجديد أعاد وصل الخطابين الأميركي والأوروبي من زاوية تتناسب مع النزعات الأوروبية الإنسانية وخطابها من جهة، وتتيح من جهة أخرى المجال أمام أميركا لتطلق عملية لجم النفوذ الروسي في سوريا. 

تحرص أميركا على ترتيب جدول الأولويات وفق تسلسل يدرج إخراج إيران من سوريا على رأس القائمة

تحرص أميركا على ترتيب جدول الأولويات وفق تسلسل يدرج إخراج إيران من سوريا على رأس القائمة، يليه إنجاز مسار سياسي من خلال دستور جديد يؤمن عودة آمنة للنازحين في إطار مرحلة انتقالية، ثم إطلاق ورشة إعمار سوريا، في حين أن المنطق الروسي يريد أن تبدأ الأمور من ورشة الإعمار من دون أن يقدم أي ضمانات تتيح استكمال الملفات الأخرى. 

أدت عملية الوصل وظيفتها، فخرجت التحذيرات من  مغبة استخدام النظام السوري لأسلحة كيميائية في العملية العسكرية المنتظرة في إدلب والتهديدات بالتدخل في حال ظهوره بشكل ثلاثي أميركي، فرنسي، بريطاني.

 كذلك  كان التحول في مواقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لافتا، فبعد تصريحاته الميالة إلى  التعامل مع الأسد تحت عنوان الواقعية السياسية ، خرج بتصريحات تؤكد على رفض شرعنته، وعدم الثقة به كطرف قادر على إدارة عملية سياسية تمهد  لحل مسألة عودة النازحين. 

جمدت التهديدات الثلاثية العملية العسكرية التي كانت روسيا تمهد لإطلاقها في إدلب بالتعاون مع النظام الأسدي والميليشيات الإيرانية، ولجمت معها الطموحات الروسية بفشل سيطرة النظام السوري على مجمل رقعة الجغرافيا السورية، تمهيدا لتفعيل مسار شرعنته، وإطلاق مسار إعمار سوريا تحت إشرافها، والمطالبة بتدفق الميزانيات الهائلة المخصصة له.

من هنا تتخذ المشاركة الأميركية في اجتماعات جنيف الرامية إلى وضع دستور جديد لسوريا صيغة ترسيم حدود اللعب الروسي في سوريا، حيث أعلنت أميركا مؤخرا عن حرصها على المشاركة عبر ممثلها الخاص للملف السوري السفير جيمس جيفري ومبعوثها الخاص جويل رايبورن بالتزامن مع جلسة لمجلس الأمن الدولي تناقش الوضع الإنساني في إدلب.

يشيرالتصعيد الأميركي إلى بروز مناخ  جديد يتم من خلاله التعامل مع روسيا كمسببة للأزمات في المنطقة وليس كواجهة للحلول. أميركا تعتبر أن تدخلها في سوريا يهدف إلى لجم إيران في لحظة تتميز بصعوبة فك الارتباط الروسي الإيراني نظرا لحاجة روسيا إلى خزان بشري ميداني مقاتل. يضاف إلى ذلك أن محاولات روسيا لإنشاء ميليشيات سورية من بقايا النظام الأسدي تدين لهلا بالولاء، وتشكل بديلا عن الميليشيات الإيرانية المنظمة، والمتمتعة بتدريب عسكري جيد وخبرات قتالية عالية، لم تنجح حتى الآن.

روسيا تغرق فعلا في سوريا ويغرق معها كل الأطراف الذين راهنوا على تراجع أميركي يخلي الساحة لنفوذ متين لهم. لا تستطيع روسيا تنفيذ هجوم على إدلب في ظل التهديدات الأميركية والأوروبية، كما لا تستطيع التخلي عن الميليشيات الإيرانية، كما يصعب عليها الاستمرار في سوريا والحفاظ على زخم وجودها المكلف فيها، ما لم يصار سريعا إلى إطلاق عملية إعادة الإعمار وتكليفها بإدارتها.

يجدر كذلك عدم  تجاهل تلازم مآزق روسيا في سوريا مع واقع العقوبات الأميركية  الجديدة المفروضة عليها، ومدى تأثيرها في اقتصاد محدود وضيق، وقدرتها على كشف هشاشة الأوراق الروسية المطروحة على طاولة التفاهم، وإبراز كلفتها العالية التي ستضطر روسيا إلى دفعها من رصيد حضورها وعلاقاتها مع حلفائها.

ربما تجد روسيا نفسها قريبا مضطرة إلى الدفع بإيران خارج الحلبة

ربما تجد روسيا نفسها قريبا مضطرة إلى الدفع بإيران خارج الحلبة، والموافقة على منح قوات سوريا الديمقراطية نوعا من حكم ذاتي أو إدارة ذاتية، وتعديل موقفها حول تعويم الأسد.

في ظل العقوبات الاقتصادية المتصاعدة على إيران، وتحويل إخراجها من سوريا إلى نقطة التقاء مصالح روسيا وأميركا وإسرائيل وجدت نفسها مضطرة إلى اختصار مشهديتها في صورة الولي الفقيه الذي يتجرع حاليا كأس سم العقوبات دون أن يكون قادرا على تنفيس الاحتقان الداخلي بحروب خارجية.

يقتصر جل اهتمام القيادة الإيرانية العليا حاليا في الحفاظ على النظام، وربما يعني الأمر تحولا دراماتيكيا في بنية عمل نظام الولي الفقيه الذي في حال سحب منه ملف التدخل الخارجي لن يكون سوى درويش.

مشروع تعويم الأسد مهدد كذلك ، ولعل المشاركة الأميركية في مسار إطلاق الدستور السوري الجديد، تهدف إلى تحديد فترة انتقالية محددة، والتأكيد على الاعتراف بالقوميتين العربية والكردية كقوميتين مؤسستين لسوريا الجديدة، التي نزع عنها مقترح الدستور الروسي في نسخته الأخيرة صفة العروبة، ومنح البرلمان الحق في إقالة الرئيس.

ما ترسمه إدارة ترامب لروسيا ولكل القوى في المنطقة انطلاقا من الملف السوري يعلن عن قطع الطريق أمام أي طموحات توسعية أو نفوذ دائم، وينهي فكرة الدول لصالح مفهوم الكيانات الشخصانية.

ببساطة تسعى أميركا إلى دروشة قوى المنطقة إذا صح التعبير، فإذا كان التدخل الخارجي نوعا من الشيطنة، فإن الدروشة التي تجبر أميركا قوى المنطقة على اعتناقها، تعني في عمقها الأبعد شخصنة قصوى للحضور السياسي لتلك القوى وتأجيل مشروع الدولة في المنطقة إلى الأبد.