أميركا التي تتوارث جينات الشباب السياسي

2021.11.16 | 05:56 دمشق

5e2998904c59b7129c4f663f.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما الذي يمكن أن يحدث إذا انكفأت الولايات المتّحدة الأميركية عن الريادة في إدارة الملفات الأكثر سخونة وتعقيداً في السياسات الدولية وفي مقدّمتها قضايا الشرق الأوسط التي تكاد تشبه كرة الصوف الملتفّة على نفسها، وتحديداً إدارة الملف الإيراني النووي الشديد الإلحاح إقليمياً وعالمياً؟ وماذا سيكون موقف صانع القرار الأميركي من الفوضى التي يسببها انفلات السيطرة على العنف المذهبي والطائفي الذي تتزعّمه وتدير رحاه الميليشيات الإيرانية العابرة للحدود وقد انتشرت انتشاراً سرطانياً في العراق وسوريا ولبنان وكذا اليمن دونما أية مؤشرات توحي بتراجعها عن فكرها الدموي الإقصائي، وآخر عملياتها الإرهابية جاءت محاولةً لاغتيال رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، بهجوم همجي على بيته في ساعات الفجر الأولى؟ وكيف يقرأ مثقفو أميركا التراجع الدرامي لانتشار الفكر الديمقراطي في العالم، وهو فكر يقوم عليه ويحميه الدستور الأميركي، ويبدو تأثره جلياً في برامج حركات التحرّر العالمية من خلال تبنّيه لحقوق الإنسان في الحرية والعيش الكريم والتعبير عن الرأي؟ وأخيراً، ما مستقبل القرار الحاسم في المعضلات السياسية الدولية التي تهدّد الأمن والاستقرار العالميين حين ينتقل هذا القرار من اليد الأميركية إلى اليد الروسية الطامحة لاستعادة دورها ـ وبأي ثمن ـ كقطب عالمي فاعل ومؤثر مقابل عالم وحيد القطب؟ وهل مستقبل أميركا السياسي كقوة عظمى هو في طريقه إلى الانحسار في ظل تقدّم قوى كبرى صاعدة بإصرار رغم التباس مساراتها كالصين وإيران وروسيا؟

لم تكن رحلة كريستوف كولومبوس المشهودة ـ وقد قادت إلى كشف القارة الأميركية ـ سَفَراً في المكان وحسب، بل شكّلت نقطة انطلاق إلى عوالم زمن مغاير، زمن أسس لنشوء أمّة على رقعة جغرافية قاريّة الامتداد، أمّة تشكّلت من موزاييك بشري عماده كوكبة من المهاجرين الذين تحدّروا من قوميات وأعراق وديانات العالم كافّة، أمّة عابرة لحدود الثابت والممكن في حالة عامة من التناغم الاجتماعي ومن التماهي في تيار الحريات الموصولة التي لا تنقطع إلا عند مفرق انتهاك القانون ـ الابن الشرعي للدستور الذي خطّه الآباء المؤسسون، الدستور الذي يقارب وثيقة تاريخية من أهم ما أنتجت وصدّرت الولايات المتحدة إلى الشعوب، والذي كانت وما زالت بصماته تظهر ساطعة على معظم دساتير الديمقراطيات في العالم. وقد خطّ توماس جفرسون واضع الدستور الأميركي، وواحد من المؤسسين للنظام الجمهوري الديموقراطي، على هوامش الدستور، في محاولة سابقة لزمنها تهدف إلى "عولمة" الفكر الديمقراطي الأميركي الأول بالقول: "من المستحيل أن لا نشعر بأن عملنا مسخّر من أجل الإنسانية جمعاء".

الفضل الأكبر في صعود القوى العالمية الجديدة يعود، في جزء كبير منه، إلى السياسة الأميركية نفسها. فخلال العقود الست الماضية، لعبت الدبلوماسية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة دوراً كبيراً في نشر آليات اقتصاد السوق، وتمكين الحريات السياسية

برزت الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة في مستهل القرن التاسع عشر، الأمر الذي شكّل التحول البنيوي الجوهري الثاني في التاريخ العالمي الحديث. إلا أن القرن العشرين بما شهده من حروب أميركا في العراق وأفغانستان، ثم القرن الحادي والعشرين وحروبه الجديدة لمكافحة آفة الإرهاب الدولي ومحاولة إنهاء الرعب المفرط الذي ولّدته عمليات التنظيمات التكفيرية في العالم، قد شهدا تحوّلات دولية عميقة على المستويين الرسمي والشعبي في الموقف العام من العملاق الأميركي.

انبنت هذه التحوّلات على قصور أميركا في إدارة هذه الحروب وملحقاتها ونتائجها، ما أدى إلى تهييء المناخ اللازم لصعود القوى المنافسة للنهج السياسي الإنجلوسيكسوني الأميركي، واحتدام صدام هذه القوى مع واشنطن لاقتسام كعكة إدارة النزاعات والقرار في العالم. وانقسم المفكّرون بين من تبنّى فكرة انحسار "الإمبراطورية الأميركية" كما اجتهد المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه "صعود وسقوط القوى العظمى" The Fall of Great Powers & Rise، وبين من يرى أن الولايات المتحدة الأميركية ستظل فاعلا أساساً في أي نظام دولي مستقبلي، كما يرى الدبلوماسي الأميركي ريتشارد هاس في "عالم بلا أقطاب" The Age of Nonpolarity. أما فريد زكريا، الكاتب الأميركي من أصل هندي، فيفيد في كتابه "ما بعد العالم الأميركي" The Post American World أن دور أميركا سيستمر في تحديد الأجندة الدولية، وترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات المعولمة، وتعبئة الموارد، والقيام بدور الوسيط العالمي Global Broker في عالم يحاول أن ينأى بنفسه عن مشهدية القطب الأوحد.

وبالنظر إلى خارطة النمو الاقتصادي العالمي نجد أن دولاً كبرى مثل الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا، قد تمكّنت من تحقيق نتائج لم تكن مرتقبة على صعيد النمو المالي والتنموي والعمراني. فأعلى مبنى في العالم اليوم لا يقع ضمن ناطحات السماء الأميركية بل في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة حيث يتطاول"برج خليفة" في سماء الإمارة الخليجية، كما أن أكبر مجموعة تجارية (سي تي جي) هي مؤسسة صينية. إلا أن هذه المعطيات مجتمعة لا تعني، بالضرورة، أن الولايات المتحدة الأميركية ستفقد ريادتها العالمية. والأمر الذي يرجّح هذا الاحتمال هو أن القوى الصاعدة ضمن التحوّل العالمي الحالي ليست جميعها قوى معادية للولايات المتحدة. هذا ناهيك على أن الفضل الأكبر في صعود القوى العالمية الجديدة يعود، في جزء كبير منه، إلى السياسة الأميركية نفسها. فخلال العقود الستة الماضية، لعبت الدبلوماسية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة دوراً كبيراً في نشر آليات اقتصاد السوق، وتمكين الحريات السياسية، وتوسيع التجارة العالمية، وتطوير التكنولوجيا وعالم الاتصالات، علاوة على اتسام الاقتصاد الأميركي بالدينامية، وعلى كون الولايات المتحدة من أكثر بلدان العالم "شباباً" من الناحية الديموغرافية، وأعظمها استقطابا للأدمغة والخبرات والروافد البشرية من أرجاء الأرض كافة. بالمقابل، فإن قوة من حجم الاتحاد الأوروبي مازالت تنقصها الوحدة القومية اللازمة للعمل القيادي الدولي، وهي لا تحرك على الساحة الدولية كدولة واحدة، كما أن روسيا تواجه تحدّيات اقتصادية وسياسية داخلية تمنعها من لعب أي دور حالي في قيادة العالم.

فصل المقال أن الولايات المتحدة ما تزال تحمل في جيناتها ما يلزم من كروموزونات الشباب الدائم والحيوية السياسية، وما زالت منيعة عن الإصابة بوهن وترهل الدول الشائخة، وهي ستبقى تدير الدفة الدولية لزمن لا يستهان بامتداده في شريان عالم الألفية الثالثة.

 أما انحسار واشنطن عن لعب دور البطولة في وطأة مشهد الانقلابات الحالية المسيطرة على المناخ الأمني والسياسي في أكثر من دولة عربية، بل وفتح الطريق ـ طواعية ـ لروسيا لتتعاطى منفردة مع الملفات الأكثر سخونة (سوريا على سبيل المثال لا الحصر)، فليس في تقديري سوى فعل تكتيكي يهدف إلى توريط روسيا للانغماس بعيداً في دعمها لبعض الأنظمة السياسية البوليسية التي هي إلى زوال، ولتتفرّغ بكل طاقتها الدبلوماسية لإدارة الملف الإيراني الذي سيحدّد ـ إثر تسويته ـ شكل وتوزّع وتأثير القوى المتنامية في المنطقة.