أمراء الحرب وتجّار المعاناة

2019.03.12 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في مشهد تمثيلي لا يخلو من التصنّع، وفي تفاعل متكلّف من هيئة التحكيم المشرفة على تقييم المواهب، وضمن أجواء معلّبة بكلّ معنى الكلمة، صفّق جمهور من المشاهدين - الغائبين أو المغيّبين عن سياق الأحداث في سوريا - للفنّان نزار علي بدر، الذي يلقّب نفسه بجبل صافون السوري الأوغاريتي، بعد أن رسم لوحة أسماها: "الهجرة السوريّة".

لم يستطع هذا المشهد أن يحرّك فيّ نفس كاتب هذه السطور، أيّاً من مشاعر التعاطف أو أي إحساس بصدق العمل وصاحبه، وذلك لمجرّد أنّ بطله قد نطق بتعريفه لهذه اللوحة تحت عبارة "الهجرة السوريّة"، وكأنّ الهجرة كانت جرّاء ملهاة لعبها السوريّون بمرحٍ في أجواء من الفانتازيا العبثيّة، أو كأنّها قصّة عشق سافر فيها سكّان مدن وقرى بأكملها بحثاً عن أماكن للاستجمام مع عشّاقهم ومعشوقيهم، أو كأنها أعراسٌ جماعيّة انتقلت إثرها العرائس إلى منازلها الجديدة في قارّات أخرى بعيدة في عوالم مجهولة! 

في جانب آخر محايث زمانيّاً، وقفت كاميرا المخرج طلال ديركي لتربح الترشّح إلى مسابقة جائزة الأوسكار على ما انتقته قبل أعوامٍ من لحظات الزمن لتوثّقها وتزرعها في ذاكرة السينما. يتحدّث طلال في فيلمه المسمّى: "عن الآباء والأبناء"، عن جزء صغير من لوحة كبيرة واسعة الامتداد، أفقيّاً عبر كامل مساحة سوريا، وعموديّاً عبر سنوات ثمان مضت منذ انطلاق الثورة في عام 2011. لكنّ طلال لم يرَ من اللوحة الكبرى – على ما يبدو - إلاّ المشهد الذي يدعم ترشّح فلمه إلى الأوسكار، ولم لا، فبضاعة الإرهاب رائجة ومكافحتها واجب إنساني، ولو بومضات سريعة أو بإضاءات متناثرة بين حبّات زيتون إدلب!

في مشهد رمزيّ آخر أقلّ انتشاراً وأقلّ شهرة لكنّه أكثر إيلاماً، راح أحدُ الناجين من معتقلات ومسالخ أجهزة المخابرات السوريّة، يستعرض بطريقة مسرحّية معاناته وبطولاته، أمام حشد من الضحايا السوريين الناجين مثله، وأمام عدد من ممثلي بعض الدول وبعض المنظمات الحقوقيّة، في إحدى عواصم الشمال الاسكندنافي. كانت هزالة المشهد وتصنّعه، وركاكة التعبيرات وضحالتها، وانعدام التعاطف والتأثير بالحضور، كافية لإيصال القناعة بأنّ هذا الشخص – الضحيّة – قد امتهن تمثيل المعاناة وأدمن الاتجار بآلامه وآلام غيره ممن لم ينجوا من براثن الموت والتعذيب فقضوا صبراً هناك، أو ممن نجوا ولم تُتح لهم فرصة التعبير عن آلامهم بطريقة إنسانية بعيدة عن الإسفاف والابتذال.

قبل هذه المشاهد كلّها، كان هناك من يملأ الدنيا صراخاً وتحدٍّ، ويعلن أن جحافل الغزاة لن تستطيع اقتحام الغوطة وستتكسّر على أعتابها رؤوسهم ورؤوس داعميهم، ومثله من تجنّد بالسلاح وتزنّر بالجعب، ووضع على يمينة قائد جيوشه، وعلى شماله رئيس أعلى مجلس قضائي أنتجته مؤسسات الثورة في عهود سيطرتها الميمونة على أجزاء من أراضي جنوب سوريا. وكان أن فرّ الجمعُ بعد أن أخذ قادتُه ما خفّ حمله وغلا ثمنه وارتفعت قيمته من دولارات وملفّات.

يستأسد بأصنام أبيه، على من تبقّى من هياكل عظميّة وأرواح هائمة في تلك البقعة المسمّاة سوريا

وبين هذا وذاك وهاته وتلك، يقبع رئيسٌ ما تبقّى من السجون وأجهزة المخابرات والجيش الباسل المغوار، حبِيسَ الخطوط الصفراء لسيده الأعلى، ورهينة عمامة داعمه الأكبر، يستأسد بأصنام أبيه، على من تبقّى من هياكل عظميّة وأرواح هائمة في تلك البقعة المسمّاة سوريا، ويوزّع عليهم من خطاباته العصماء وضحكاته البلهاء ما يكفيهم عن الطعام أسابيع من شدّة القرف والتقزّز.

بالنظر إلى تعريف نزار عن نفسه من خلال تعريفه لجنود الجيش السوري بأنّهم الأنبياء الذين صانوا أرض سوريا، ومن خلال وصفه لمشاهد احتضان الجيش السوري العظيم للأهالي الخارجين من أوكار الضباع. وبالنظر إلى تعريف طلال عن نفسه من خلال قوله بأنّه قد توجّه لتصوير الفيلم إلى "أرض الرجال التواّقين إلى الحرب في مقاطعة إدلب الواقعة تحت سيطرة تنظيم القاعدة، جبهة النصرة".

وبالنظر إلى تعريف الضحيّة عن نفسه بأنّه رمز لكل المعذّبين في الأرض، مستعملاً لهجة غريبة وأسلوباً فوقيّاً في حديثه وكأنّه بذلك اقتنص الفكرة واللحظة الزمنيّة الفارقة، وبالنظر إلى صفاقة ووضاعة وجبن وتخاذل من تنطّح لقيادة المشهد العسكري ممن كان محسوباً على الثورة، ومن أودى بها وبالناس موارد التهلكة جرّاء ضيق أفقه وغبائه، وارتهانه لكلّ شيء عدا مصلحة الثورة والوطن والناس.

وبالنظر إلى ما اتخذه هذا المهبول وزمرته المقرّبة من قرارات وما سلكوه من طرق لتثبيت حكمهم، على أشلاء وطنٍ أرهقوه وأدموه ببراميلهم الغبيّة وبارتهانهم لكلّ شذّاذ الآفاق وقطّاع الطرق والطامعين.

بالنظر إلى كلّ ما سبق، تبدو اللوحة قاتمة أمامنا، ويبدو المشهد سوداويّاً إلى أبعد الحدود. لكن، هل يعفينا ذلك من طرح الأسئلة اللازمة ومن محاولة الإجابة عنها؟

لماذا وصلت بنا الأمور إلى هذه النهايات المفجعة، أين أخطأنا، ماذا كان علينا أن نفعل ولم نفعل، وكيف يمكننا أن نعاود النهوض بعد هذه الكبوة؟

أسئلة كبرى تحتاج إلى مراجعات لا بدّ منها، وهي مهمّة كلّ واحد فينا، كلّ سوري مهما كان اصطفافه ومهما كان انتماؤه.

هل كانت الثورة ضرورة حتميّة، هل كانت قدراً لا رادّ له، ألم يكن هناك طريق آخر لو سلكناه لوفّرنا دماءنا وأرزاقنا ومستقبلنا من همجيّة هذه العصابة المجرمة؟

إن كانت الثورة ضرورة حتميّة ولا سبيل لتفاديها في ظروف اندلاعها في تلك الأيام من بدايات موجة الربيع العربي، فهل كانت وسائلها وأدواتها كافية لإحداث النتيجة المطلوبة؟

هل كان خيار السلميّة أفضل من خيار العسكرة، وهل كان بالإمكان تفادي اللجوء إلى حمل السلاح في مواجهة جيشٍ وأجهزة مخابراتٍ وميليشياتٍ معدّة منذ خمسين عاماً لهذه اللحظة؟

هل كانت ثورتنا مُحقّة ومشروعة، وهل استطعنا أن نكون على قدر أحقيتها ومشروعيتها؟

هل كانت ثورتنا وطنيّة، وهل استطعنا أن نحافظ على طابعها الوطني، أم إننا قبلنا الارتهان لمن ادّعى وصلاً بنا وحبّاً لنا وأخوّة معنا؟

هل استطعنا أن نفرز أفضل ما عندنا من طاقات ومن قياديّين وممثلين عن حراكنا الثوري؟

هل ننام الآن ملء جفوننا، وهل ضمائرنا مرتاحة؟ هل لدينا ما نقوله لمعن العودات ويحيى الشربجي وبشير العاني، هل تسامحنا مي سكاف وراوية الأسود وفدوى سليمان، هل لدينا ما نرويه لأبي فرات وعبد القادر الصالح، هل لدينا جواب لأسئلة الأمّهات والآباء عن فلذات أكبادهم حمزة وهاجر وأمل ويوسف..، هل لدينا جواب لأبناء الشهداء عن دماء ذويهم؟

على الجانب الآخر من الوطن الممزّق، هل استفاقت الحواضن الشعبيّة للنظام على هول الكارثة؟

وعلى الجانب الآخر من الوطن الممزّق، هل استفاقت الحواضن الشعبيّة للنظام على هول الكارثة، أم تحتاج إلى براهين أكثر وأعمق وإلى دروس أبلغ وأكثف، لتعرف من أوصلنا وإيّاهم جميعاً إلى هذا الحضيض المتردّي من الجحيم؟

الحقيقة أنّ هذه الأسئلة أكبر وأعقد من أن يجيب عليها فردٌ أو مقال، إنها أسئلة الاستحقاق الذي لا مفرّ منه، فبعد كلّ هزّة تتعرض لها أية أمّة، وبعد كل محنة يتعرّض لها أيّ شعب، يجب أن تكون هناك وقفة مع الذات، يجب أن يكون هناك مراجعة حقيقيّة لكلّ ما حصل، ودون ذلك سيندمل الجرح على القيح والعفن، مما يعني أنّه سيعاود الانفجار مجدّداً.

فلننظر إلى رواندا، تلك الدولة الصغيرة في وسط إفريقيا، والتي قتل أهلها من بعضهم 800 ألف شخص خلال 100 يوم فقط عام 1994 أثناء حرب الإبادة الجماعيّة بين قبيلتي التوتسي والهوتو. الزائر لرواندا الآن يظنّها سنغافورة أو ماليزيا، وعاصمتها كيغالي تصنّف بين أنظف مدن العالم مع وارسو وستوكهولم، وشعبها الذي قتل بعضه بعضاً قبل أعوام، يفرّغ يوم السبت من آخر كل شهر ليساهم في التنظيف الطوعي لمدينته، حتى أنّ السياح يشاركون المواطنين بهذه الحملات. 

لم يقفز الشعب الرواندي على المشكلة التي حصلت بين مكوناته القبلية، بل واجهها، وطرح الأسئلة على نفسه، وأجاب عليها، لذلك ينعم الروانديون الآن بثمار التعقّل والحكمة والتسامح. لكنّهم لم يتركوا الجناة بلا محاسبة، وقد ساعدتهم الأمم المتحدة بمحاسبة كبار المجرمين من خلال إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة في رواندا، إضافة إلى ذلك فقد أنشؤوا نظاماً يحتوي على 11000 محكمة مجتمع (مجلس حكماء) وتم من خلالها توجيه التهم لحوالي خمس سكان البلاد، وبعد ذلك تمّت عمليات المصالحة والإدماج في المجتمع الجديد.

علينا أن نبدأ بالبحث عن تفسير لحالات الانحطاط المرافقة لهذه الهزّة الكبرى التي عصفت بنا، فلم تستثن من تبعاتها أحداً

من هنا، علينا أن نبدأ بالبحث عن تفسير لحالات الانحطاط المرافقة لهذه الهزّة الكبرى التي عصفت بنا، فلم تستثن من تبعاتها أحداً. الفنّ ليس شيئاً منفصلاً عن الواقع، كذلك السياسة والعمل الإنساني والعمل الحقوقي. كل ما قمنا به يحتاج إلى مراجعات حقيقيّة، يحتاج إلى وقفة شجاعة مع الذات، يحتاج إلى عقل نقدي لا يغضّ الطرف عن الأخطاء، بل يكشفها ليجد الطريق القويم إلى الخلاص بعد حلّها. وبالتأكيد لن يكون لكلّ ذلك أية قيمة ما لم يحصل التغيير الحقيقي في سوريا، ما لم يدرك المجتمع الدولي المتحكم بقضيتنا أنّ الاستقرار السياسي والأمني لن يكون إلّا بزوال نظام الاستبداد، وبالانتقال إلى نظام ديمقراطي يحفظ كرامة الإنسان. هذا المجتمع الدولي الذي كان أكبر عقبة أمامنا في تحقيق طموحاتنا، يجب أن يصل إلى تلك القناعة الفعلية بعد أن اكتوت مجتمعاته بمفرزات حرب نظُم الاستبداد على الشعوب المطالبة بالحرية.

قد تعود بارقة الأمل إلى نفوسنا المتعبة، بعد أن رأينا مجدّداً مظاهرات أهالي درعا البلد يوم الأحد الماضي في 10-3-2019 ومظاهرات أهالي مدينة طفس يوم الإثنين الفائت، أي قبل أيام قليلة على الذكرى الثامنة لانطلاق الثورة. وقد يستطيع أهالي بقيّة المناطق التي استرجعها النظام - بالقوّة الروسية الغاشمة وبالدعم الأمريكي والغربي- التعبير كأهالي درعا عن موقفهم الرافض للعودة إلى ما قبل العام 2011. 

لإن ماتت في نفوس البعض قيمُ الكرامة والحق والحريّة والشرف والإنسانيّة، إلّا أنّ هذا الشعب حيّ لا يموت، وسينهض من تحت الركام كعنقاء الرماد مجدّداً.