أمام القانون.. وحارس البوابة

2022.01.11 | 05:06 دمشق

lagyon-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

بيدين مرتجفتين وصوت مبحوح تقريباً يتحدث محمود عن ظروف رحلته عبر بلاروسيا قادماً من دمشق. إن صاحب الثلاثين عاماً كان قد اجتاز الحدود البولندية بعد عناء طويل، وبالقرب من برلين كان قد نزل في مخيم للاجئين بعد أن أمسك به البوليس الألماني وصادر هاتفه وجواز سفره السوري. لكن وقبل أن يجتاز الحدود البولندية إلى ألمانيا جلس لعدة أسابيع أمام المعبر البلاروسي البولندي حيث انتظر فرصة دخول آمنة إلى أوروبا دون أن يسمح له بذلك، وبعد أن عجز في إيجاد منفذ آمن، اضطر إلى أن يغامر مرة ثانية بالتسلل خلال الغابات في البرد القارص الذي التهم رئتيه، ورغم قضائه عدة أيام في مخيم للجوء قرب برلين يصفه محمود (بالدافئ) إلا أن جسده لايزال يرتجف. في الليل عندما ينام يبدو أن كوابيس المشي في الغابات تراوده، إذ يرى أنه تائها وسط الأشجار في منتصف الثلوج والأمطار. إن ارتجافه هذا معللاً والسعال الذي يخرج من صدره والرشح الذي لازمه لأسبوعين ليس كورونا. يفسر ذلك قائلاً- كي لا يثير الرعب في داخلي حيث يسرد لي القصة- كيف أن السلطات الألمانية قد أجرت له فحص الكورونا وكان سليماَ. إذاً البرد وحده من سبب له ذلك الشخير الجاف الصادر مع أنفاسه، فالأب لطفلين قد أصيب بالتهاب قصبات حاد، وإلى جانب ذلك كان يطرح سؤالاً محقاً: إذا كان من حق كل إنسان أن يقدم طلب لجوء، لماذا لم يسمحوا له بالدخول؟

إن قصص كافكا دائما ما تترك القارئ بحيرة، لكنها لطالما اعتبرت مدخلاً لفهم القرن العشرين

في عام 1915 نشر كافكا نصاً نثرياً بعنوان: أمام القانون. يعرف النص أيضاً بأسطورة حارس البوابة. وهو نص مقتطع من فصل «الكاتدرائية» في روايته الشهيرة المحاكمة ويفتتحه بالعبارة التالية: «أمام القانون يجلس حارس البوّابة. يأتي إلى هذا الحارس رجلٌ من الريف يطلب منه الدخول إلى القانون. لكنّ حارس البوّابة يقول إنه لا يستطيع منحه حقّ الدخول في الوقت الحالي. يفكّر الرجل في الأمر، ثم يسأله عمّا إذا كان سيسمح له بالدخول في وقتٍ لاحق. هذا ممكن يقول حارس البوّابة، ويردف: لكن ليس في الوقت الحالي".

إن قصص كافكا دائما ما تترك القارئ بحيرة، لكنها لطالما اعتبرت مدخلاً لفهم القرن العشرين، وعلى حد سواء يبدو أن هناك إنسانا عالقا في نظامين هما: القانون، وجهاز الدولة البيروقراطي. وفي قصة كافكا (أمام القانون) نحن أمام رجل يأتي من الريف، لديه نيّة واضحة تكمن في رغبته بالدخول في القانون، غير أن حارس البوابة الذي يرتدي معطفاً من الفرو، وله أنف مدبب كبير، ولحية تتارية طويلة سوداء يعترض الرجل، ولا يسمح له بالدخول رغم أن باب القانون يجب أن يكون مفتوحاً لجميع. لذا يجب على الرجل أن يجلس أياماً وأسابيع وأعواماً في انتظار أن يسمح له بالولوج إلى القانون، وخلال انتظاره يأمل من البراغيث في ياقة معطف حارس البوابة أن تتمكن من إقناعه الحارس بتغيير رأيه. تعتبر هذه القصة محيرة فلماذا لا يسمح للرجل بالدخول؟ لماذا ليس الآن؟ غير أن القصة لا تقدم أي تفسيرات. ثمة نفي، ورفض لعملية الدخول يترك القصة في حالة من السرّ والعبث. ومع خضوع الرجل لهذه السلطة استنفد عمره في الانتظار طويلاً، وحيداً أمام حارس البوابة.

في مخيمات اليونان يبدو أن حالة الانتظار هذه مشابهة لقصة كافكا. تقول مريم، إحدى السوريات، إنها انتظرت مع زوجها وطفليها، قرابة عام ونصف حتى تمكنت من الدخول إلى ألمانيا بعد أن اجتازت البحر المتوسط. وعندما كانت لا تعلم ما قد خبأت لها الأيام بدا لها ذلك بمنزلة احتجاز طويل الأمد كان عليها وعائلتها أن تتحمل ظروفه السيئة في مخيمات اليونان. تصف ذلك بالقول «إن العفن والرطوبة كانا يعششان في الكرفانة التي قطنت بها لمدة أشهر، فأصابتها الحساسية، وصارت تسعل طوال الوقت».

ورغم أنها حاولت مع زوجها التحدث مراراً وتكراراً مع إدارة المخيم لكن الأمر لم يفلح، فاستمرت بالسعال إلى أن تم منحهم الحماية كلاجئين في اليونان فاستطاعت وعائلتها الخروج إلى أثينا. وفي العاصمة اليونانية باءت كل محاولات زوجها في إيجاد عمل يعتاشون من خلاله، وفي ظل انقطاع المساعدات الاجتماعية عنها، وتردي الأوضاع الاقتصادية في اليونان، صار وضعهم مأساوياً فكان زوجها يضطر إلى استدانة المال من أقاربه في سوريا، ومرات يجمع القوارير الفارغة من الشارع ويستبدلها بمواد غذائية كي يتدبروا قوت أولادهم. عام ونصف تصفها مريم (بأسوأ ما حدث لها) بجانب ما كابدته في سوريا من حرب وإرهاق اضطرها في النهاية إلى الهرب من دير الزور ثم إلى تركيا وبعدها أوروبا حيث وجدت نفسها مرة ثانية محاصرة داخل جزيرة يونانية، قبل أن تجد مخرجاً إلى ألمانيا، وتعلق مرة ثانية في بيروقراطية التحقق فيما إذا يحق لها ولعائلتها تقديم طلب لجوء في ألمانيا أو لا، وذلك لأنها قد حصلت على حق اللجوء في اليونان.

مؤخراً وعلى الحدود البلاروسية البولندية تم منع اللاجئين من دخول أوروبا، ولم يتم تقديم  أي مساعدة لهم

وإذا استطاع كلٌ من محمود ومريم الوصول إلى ألمانيا، فثمة كثير من اللاجئين السوريين والعراقيين لم يحالفهم الحظ في الدخول إلى القانون. فاللاجئون الذين تقطعت بهم السبل في بلدنهم، ويكافحون لأجل حياة أفضل باتت فرصهم شبه معدومة بالوصول إلى أوروبا. مؤخراً وعلى الحدود البلاروسية البولندية تم منع اللاجئين من دخول أوروبا، ولم يتم تقديم أي مساعدة لهم. وفي هذا الشأن نشرت منظمة برو أزول عن معاناة اللاجئين على أبواب أوروبا تقريراً تحت عنوان: (سياسة تترك الناس يموتون ببساطة). فالمشاهد على الحدود البلاروسية البولندية كانت صادمة، إذ إن اللاجئين قد تركوا في العراء مع درجات حرارة دون الصفر، ورفض بولندي لتقديم أي مساعدات طبية وإنسانية لهم، بل وعلى العكس من ذلك إن عمليات صد اللاجئين تمت بموافقة البرلمان البولندي دون أن يتم مراعاة حق هؤلاء اللاجئين بطلب الحماية وفق القانون الدولي والأوروبي.