أفول عصر الدراما

2021.04.15 | 06:12 دمشق

asabnews_2020-12-11_15-49-24_405958.jpg
+A
حجم الخط
-A

شهدت الدراما التلفزيونية ثورة في الإنتاج والمستوى الفني والحضور الجماهيري، في الفترة ما بين منتصف التسعينيات وبداية الربيع العربي، أي في المرحلة الممتدة من بداية صعود البث الفضائي إلى فترة ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ففي هذه المرحلة، ارتقى أداء الممثلين ومستواهم، وكان للمحطات الفضائية التلفزيونية الكثيرة دور في تشجيع إنتاج الدراما وتسويقها، لتغطي بها ساعات البث الطويلة، والتي ازدادت ليصل البث إلى أربع وعشرين ساعة لدى كل المحطات.

 وإذا كانت تلك الفترة هي العصر الذهبي للدراما التلفزيونية، فإن شهر رمضان نفسه قد تحول إلى شهر الدراما بحق، ففيه تعرض أهم الأعمال الدرامية، حيث كان التنافس على أشده بين شركات الإنتاج لعرض مسلسلاتها في هذا الشهر. وإنصافا للحقيقة، وتسجيلا للتاريخ، فإن "الدراما" في المرحلة المشار إليها كانت تعني في المقام الأول الدراما السورية التي تسيدت ساحة البث الفضائي، وصار لها جمهور واسع في مختلف أرجاء الوطن العربي.

ثمة إنجازات كثيرة حققتها الدراما على الصعيد الثقافي العربي العام، منها: أنها خلقت نوعا من الشعور المشترك في مرحلة شهد فيها الخطاب القومي تراجعا حادا، فكانت المسلسلات التلفزيونية التاريخية تعويضا عن هذا التراجع، من خلال تكريس الرواية الرسمية العربية للتاريخ، وإعادة إنتاج الذاكرة لدى جمهور عربي يعاني أزمة حضارية، وانسداد أفق تاريخي، كذلك ساهمت بنشوء لغة مشتركة، حيث باتت اللهجات أقرب إلى بعضها مما كانت عليه من قبل. وهي ظاهرة تقع على خلاف وسائل التواصل الاجتماعي التي ظهرت لاحقا، وفيها تقريبا انكفأ كل قطر على نفسه، وبات يتناول القضايا التي تخصه على نحو رئيس، دون أن يتجاوزها إلى قضايا بقية الأقطار العربية الأخرى، حيث صار ممكنا الحديث عن الفيس بوك السوري، والفيس بوك المصري، والتويتر السعودي... إلخ.

لكن العارفين بشؤون صناعة الدراما بدؤوا منذ عقد من الزمن يتحدثون عن تراجع الدراما، يشكو من ذلك الانحسار المخرجون والمؤلفون والممثلون على حد سواء. وتساق في معرض الكلام أسباب كثيرة في تفسير هذا التراجع، وخصوصا الدراما السورية، كالحرب وضعف التمويل وهجرة الممثلين وغيرها من الأسباب. وكل ما ذكر صحيح في جزء منه، ولكن السبب الرئيس في هذا التقهقر لا يعود إلى ما تقدم من عوامل، فقد أصبح واضحا أن الدراما لم تعد تجد ذلك الجمهور الذي كان لها قبل عقد من الزمن، وحتى محاولة الدراما المصرية في استقطاب عدد من مشاهير الممثلين السوريين، وإنتاج مسلسلات متميزة في السنوات الماضية، لم تفلح في إيقاف هذا التراجع، فلم تحقق تلك المسلسلات الحضور الجماهيري الذي كانت تتمتع به الدراما في بداية الألفية.

إن مراجعة تاريخ الفن ضرورية في هذا الموضع، لإلقاء الضوء على عوامل هذا الانحسار، فاستظهار هذا التاريخ يشير إلى أن ظهور نوع أدبي أو فني يرتبط على نحو ما بحقبة زمنية معينة، لها خصائصها التي تنعكس في الشكل الفني، فالملحمة مثلا كانت نتاج العصر العبودي، فيما جاءت الرواية معبرة عن صعود الطبقة البرجوازية إلى مسرح التاريخ العالمي.

 من الإسهامات المهمة لمدرسة فرانكفورت أنها تنبهت مبكرا إلى أن التغيرات الفنية أصبحت مرتبطة بالاختراعات التقنية و تقدم التكنولوجيا أكثر من ذي قبل. ووفقا لهذا الرأي، فإن ظهور تقنية جديدة يستلزم ضرورةً أفول الأشكال الفنية القديمة أو تراجعها، لتحل بدلا منها أشكال جديدة، تعبر عن هذا التغير التقني الذي أصاب العالم. فالمسلسل استنادا إلى هذه الرؤية هو ثمرة البث الفضائي، ولهذا جاء التحول عندما ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي، لتظهر أنماطا جديدة من الظواهر الفنية والإعلامية. فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي لفئات جديدة أن تنتقل إلى موقع المشاركة في الظاهرة الإعلامية، سواء عبر المنشورات، أو مقاطع الفيديو، أو الصور، أو إنشاء صفحات ومجموعات تناسب ميول الأفراد واهتماماتهم. فظهر جيل اليوتيوبرز الذي أزاح الممثلين عن عرش الشهرة وتسيد ساحة الإعلام في السنوات الماضية. وهذه الفئة باتت تجذب جيلا جديدا من المشاهدين، لم يعد يستهويه البقاء أمام شاشة التلفاز ليتابع مسلسلا طويلا، الأمر الذي رأينا انعكاسه مؤخرا في قيام شركات الدراما بإنتاج مسلسلات "قصيرة" تتكون من سبع حلقات، وليس من ثلاثين حلقة، كما كان العرف السائد في الدراما التلفزيونية منذ التسعينيات.

 عند الكلام على تراجع الدراما، لا يجوز أيضا إغفال الجانب السياسي ، فالاصطفاف السياسي الذي تلا الربيع العربي، أدى إلى انهيار الصورة المثالية المرسومة في أذهان المتلقين والمشاهدين عن الممثلين والفنانين، فلم يعد المشاهد ينخدع بالصورة التي يرسمها الممثل عن نفسه، فقد أخرج التطور الإعلامي الفنان من برجه العاجي الذي كان يظن أنه يعيش فيه، قبل عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وفضحت تلك الوسائل الدور الذي قامت به أجهزة الأمن والمخابرات في ترويج أسماء معينة، وإزاحة مواهب حقيقية، لأنها تخالف توجه السلطة الإيديولوجي. فلم يعد الممثل أو الفنان قادرا على خداع المشاهد، فعلى سبيل المثال، يصعب أن يتقبل المشاهد اليوم ظهور ممثل أو ممثلة في دور البطل الإيجابي أو الشخص الخير، في حين ناصر هذا الممثل في العالم الواقعي دكتاتورا مجرما، أو وقف مع الظلم، أو ضد تطلعات شعوب عديدة للحرية والكرامة، أو ربما دعا إلى إبادة المعارضين وقتلهم.

من العوامل التي لا تقال عادة في الحديث عن انهيار سوق الدراما، أن هذا الانهيار ترافق مع الربيع العربي، فما حدث في العقد الماضي أن المجتمعات العربية شهدت أحداثا جسيمة: الحرب على الأكثرية المجتمعية في المشرق العربي، استخدام الأسلحة الكيماوية، القتل، التطهير المذهبي، القصف بكل أنواع الأسلحة، التعذيب حتى الموت، وكلها أو جزء منها خبرتها بلدان عربية، وهي أحداث لا تعرفها ذاكرتها الحية، ولم تشهدها منذ نكبة فلسطين على أقل تقدير.

لنقف قليلا ونتذكر مقولة أرسطو بأن الفن أكثر جمالية من التاريخ، لأنه يصور ما يحتمل وقوعه، على النقيض من التاريخ الذي يروي ما قد حدث، أو ما قد كان. إن التجارب التي عاشتها شعوب عربية متعددة، تجاوز ت ما يمكن أن تتناوله الدراما التلفزيونية، التي تبدو عاجزة عن مجاراة عمق التحولات التي عاشتها تلك الشعوب، وحجم العذاب والألم الذي تعرضت له. إن كل ما سيقوله السيناريست على لسان شخصياته سيبدو محاكاة باهتة لواقع ربما تعجز الصورة الدرامية عن تصويره، مهما أوتيت من قدرة على رسم الدمار، فالمآسي التي نراها مائلة أمامنا على شاشات الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي، والتي نشكل نحن وأهلنا وجيراننا وأصدقاؤنا عناصرها البشرية، تبدو أكبر من أن تحاكيها الدراما. ربما ستكون هذه المحاكاة ممكنة لأجيال قادمة لم تعاين المأساة، ولكن حتى هذه تبدو احتمالا بعيد المنال في ضوء التوثيق التصويري الذي قامت به محطات التلفزيون، ومواقع التواصل الاجتماعي، وسواها من المواقع التي تتيح إمكانية تخزين المواد البصرية وغيرها. يضاف إلى ذلك أن تجربة اللجوء والهجرة، والاحتكاك بمجتمعات وثقافات جديدة، خلقت حساسيات فنية لدى جمهور واسع، باتت تصوراته ورؤاه للعالم والفن أشد تعقيدا من أن يستهويها التناول المكرور للموضوعات، والذي مازال يحكم كثيرا من رؤية كتاب السيناريو للعمل الدرامي.

لقد أزاح المذياع الحكواتي عن العرش الذي تربعه في واجهة المقاهي لقرون طويلة، ولم يطل الوقت حتى ظهر التلفاز فحل مكان المذياع. في العقود الماضية، كان حديث نقاد الأدب عن زمن الرواية، وموسم الهجرة إلى مدينتها من بادية الشعر. الأمر نفسه يتكرر الآن في عالم الفن. نحن أمام هجرة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ولن تفلح كل المحاولات في استمالة جمهور عريض باتت المادة الدرامية جزءا من تاريخ آبائه.