أعياد النازحين

2020.05.24 | 11:38 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

طقوس الأعياد عند المهجرين والنازحين تغدو مختلفة، يأتي العيد غريباً متخفّياً إلى تلك البقعة الجغرافية التي يقطنها مئات الآلاف من البشر الذين هجروا قسراً من ديارهم، واضطروا لأخذ بعض ما يلزم من متاع وأثاث منزلي بسيط والسكن في ظروف معيشية سيئة، يحاول العيد جاهداً تغيير الأجواء ونثر بعض البهجة في النفوس، إلا أن سنوات التهجير التي عانى منها السوريون في السنوات الأخيرة جعلت فكرة العيد ترتبط رغماً عنهم بالفقد، فقد البيت والمدينة والمكان، فقد الأهل، وشيء ليس بالقليل من فقد الذات، يحاول مداواته بمحاولة استعادة بعض ملامح الاستقرار، وإعادة شيء من العادات المرتبطة بالأعياد، ورسم شيء من البهجة، ولو بقليل من الزينة والحلوى، فشعب عاش الكرامة لا يطيق إلا أن يتابع أبيَّاً مقاوماً كل عوامل القهر، حتى تتحرر الأرض والإنسان.

المجهول المرعب

شهدت كل مدن الشمال السوري في الأعياد خلال السنوات الماضية سيناريوهات مؤلمة وبشعة، فارتبطت الأعياد والأيام التي سبقتها بحزن وعزاء وألم، بسبب تفجيرات إرهابية طالت الأبرياء، واقتحمت الأسواق، وتطفلت على ألعاب الأطفال وحلوى العيد، فلطختها بالدماء الزكية، ولا ذنب للناس في تلك العمليات الوحشية سوى انحيازهم لصفوف الكرامة، ولذلك فمازالت الأثمان تُدفع، والحالة الأمنية تُرفع إلى أعلى مستوياتها كلما اقترب العيد أكثر.

أماكن فارغة وقلوب مضطربة

كل ليلة تتأمل أمهات الشهداء والمعتقلين صور أولادهم وبناتهم، يفكرن في الفراغ الهائل الذي تركه الشهداء، وتخشى قلوبهن من مجرد التفكير بإخلاء سبيل المعتقلين، فالأمل محرّم على الناس في سورية الأسد، فيما تتضاعف الغصة خلف القضبان مع قدوم كل عيد، فكرة التعلق بأمل قد لا يتحقق مؤلمة أكثر بكثير من فكرة تقبل الواقع على مرارته، ويأتي العيد ليحرك كل المرارة الممكنة في القلوب، ووحدهم الشهداء من يبتهجون بعيدهم في الجنة.

نضال من أجل الفرح

داخل البيوت والخيام للعيد شأن آخر، حيث تناضل النساء لأجل إضفاء لون من البهجة على حياة مليئة بالهموم والمنغصات، تبتكر حلوى من أكثر المكونات بساطة وتوفراً، تخبز حلواها بطرق مبتكرة أيضاً، وتقدمها بأناقة لم تحرمها إياها تجربة التهجير المؤلمة، ولا السكن في مكانٍ غير ملائم للحياة الطبيعية أو في خيمة، فقد تعلمت السيدة السورية المناضلة فن إدخال البهجة على أسرتها، وأتقنت مهارات التغلب على الحالة المعيشية الصعبة بأقل تكاليف ممكنة، لتثبت أن المقاومة للظلم لها أبعاد، منها مساعدة الآخرين في التغلب على واقع صعب، وتجميل الأيام المرة، ولو بصنع قطعة حلوى.

تكبيرات العيد تطوي ما مضى

كل الإجراءات والتحضيرات تحدث قبل العيد، وما أن يبدأ فجره وتبدأ التكبيرات، تتطلع الأفئدة للمساجد، مع كل خطوة إلى هناك تتوالى على ذاكرة المهجرين كل الأعياد التي عبرت في الثورة، كل المنشدين الذين صدحوا بمظاهراتهم الحاشدة بعد الخروج من صلاة العيد، وجوه الأطفال التي تزينت بأعلام الثورة، فكانت أبهى من أي زيّ باهظ الثمن يمكن لطفل ما أن يرتديه في العالم. يأتي الرجال إلى المسجد وذاكرتهم صاخبة بأحداث الثورة، بالأحرار الذين كانوا يقابلونهم في المسجد ويلقوا عليهم التحية كل عيد، لكنهم باتوا في عداد الشهداء، لم يحدث وأن فكر بعضهم أن يحصوا المفقودين، فالحالة لا تستدعي الاستسلام لواقع الحزن بقدر ما تستدعي الفرح،  مع الأولاد ومسحة من الإشراق تزين وجوههم التي كانت مليئة بالتجهم والعبوس قبل ساعات، ولابد من مظاهرة حاشدة تلعن الأسد كطقس أساسي لا حياد عنه كل عيد.

أسر مشتتة  ومعايدات لا تنتهي عبر الإنترنت

بعد العودة من صلاة العيد تغدو الوحدة سيدة الموقف لدى الأسر المهجرة، فتداهمها زوابع الذكريات القديمة، اجتماعات العائلة السعيدة، تغدو البسمة أمراً عسيراً، وتَصَنُّع البهجة أكذوبة كبيرة، يعرفها الجميع ويتغاضون عنها طواعية، ولا تلبث حالة الحزن تتبدد مع تقدم ساعات النهار يتحول العيد إلى لقاءات مع الأحبة حول العالم عبر شبكة الإنترنت، تلتقي الوجوه وتتصافح، تُرسل القبلات والتهاني، الابتسامات والدموع، والحلوى والزهور والزينات والأناشيد المبهجة صوتاً وصورة، غير أنها لا تُلمس إلا من وراء الشاشات، تتباهى كل ربة منزل بحلواها، وتجد نفسها عبر خط الإنترنت الذي تصل شبكته ما تقطع من نياط القلوب، مع أمنيات مكثفة بأن يجمع الله الشمل، ويعيد المهجرين والمغتربين إلى مدنهم بعد زوال الأسد ونظامه المجرم.

الفرح المؤلم العابر

يدرك الجميع أنه عيد سيمضي، بكل هالة الذكريات المؤلمة التي يحملها معه، وبأنه أكثر إيلاماً بكثير للمعتقلين خلف القضبان، والذين تتحول ذاكرتهم إلى إشراقات غير محسوسة، تشتهي الضوء لتعلن عيدها، تشتهي السّكَّر لتبتهج، وتشتهي الحرية ليغدو العيد حقيقياً والفرح فيه أكثر منطقية، ويتحدى المناضلون بفرحهم في العيد كل الذين اجتهدوا ليجعلوهم أكثر تعاسة وخيبة ويأساً وألماً، يفرحون لأن الفرح الذي يغيظ سجانهم كرامة، ويفرحون لأن العيد ملكهم وحقهم المشروع، ويدركون أن الألم زائل، والعيد آتٍ كل عام في موعدٍ لا يخلفه ليقدم لهم الفرح والكرامة رغماً عن بؤس العالم كله.

كلمات مفتاحية