أعترف أنني لم أعِش

2022.05.26 | 06:33 دمشق

nyrwda_alswry2.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل بدا لكم أنني أعارض عنوان مذكرات شاعر تشيلي الشهير بابلو نيرودا "أعترف أنني قد عشت"؟ نعم، معكم كل الحق. استعرت/سطَوت مع تحريف طفيف، على اعترافه هذا، الذي طالما أرّقني لسنين طويلة.

هل يمكن التصديق؟ رجل يمضي إلى نهايته ممتناً للحياة أنه قد عاش! سابقاً، وحتى في أحلك الظروف، لم يكفّ الحلم بأنني لابد سأعيش في يوم ما، عن مراودتي. في الواقع، استعرت العنوان ليس لنفسي فقط، وإنما لمعظم السوريين الذين ولدوا في النصف الثاني من القرن العشرين وما بعد، ممن لم يعيشوا، حتى لو اعتقد بعضهم عكس ذلك. أقول "معظم" لأستثني قلَّةً كانوا السبب في حرماننا من العيش.

المقصود بالعيش هنا، مجرد حياة طبيعية تتقاسمها القسوة والهناءة، المصاعب واليسر. تلك الهناءة التي لم نحظَ بها يوماً منذ نحو ستة عقود، نحن السوريين العاديين الذين لم نَحكم ونتسلّط، ولم نقتل ولم نسرق ثروات بلدنا.

قبل أيام، مرّ معي عنوان كتاب نيرودا، وكنت قرأته قبل سنوات بعيدة. لوهلةٍ تذكَرت تقريباً معظم ما جاء فيه، رغم أنّني من النمط الذي ينسى تماماً ما قرأ قبل زمن. سألت نفسي: حسناً، وماذا عنّا؟ أقصد لو شاء أحدنا أن يروي، مقتدياً بنيرودا، كيف عاش، فماذا سيكتب، وعن أي حياة سيروي؟ مثلاً، في كتابه يعدد ويتحدث نيرودا عن البلاد التي زارها وعاش فيها، في أميركا اللاتينية وآسيا وأوروبا، ويلاحظ القارئ كم أغنت حياته تلك الأسفار والزيارات والتجارب، وكم تعرّف إلى أناس من ثقافات مختلفة، لينعكس كل ذلك في أشعاره. من هنا بدأت لديَّ المقارنة المخزية، لتمتدَّ إلى حياةٍ بكاملها.

أنا ولدت ومررت في هذه الحياة حقاً، وسأمضي يوماً إلى حتفي. نعم حدث هذا معي، مثلكم جميعاً، ومثل نباتات البازلاء أو حشرات النحل، لكن هل عشت حقاً؟

سألت نفسي، بحسب "كتالوغ" العيش الذي سطّره نيرودا، وهل عشت أنا/نحن؟ عني شخصياً أجبت بسهولة، بسؤال مُستولَد ومكرر، ولم أحتج لكثير من التفكير. أنا ولدت ومررت في هذه الحياة حقاً، وسأمضي يوماً إلى حتفي. نعم حدث هذا معي، مثلكم جميعاً، ومثل نباتات البازلاء أو حشرات النحل، لكن هل عشت حقاً؟

يكثف صاحب جائزة نوبل وصفته السحرية للعيش من وجهة نظره في قصيدة قصيرة. يلقي علينا تحذيراته، ليحدد لنا سبل العيش، بأن يتحدث عمن لا يعيشون أو من هم في سبيلهم إلى موتٍ بطيء. يكتب الرجل "يموت ببطء من لا يسافر". عن نفسي، في أولى وصفاته، كانت المقارنة بالغة السهولة، لأصل إلى الاستنتاج بأني أنتمي بيسرٍ شديد، إلى فئة من كانوا يموتون ببطء، حسب بنده الأول. لسنوات طويلة، كنت محشوراً في لوائح تضمّ عشرات، وربما مئات آلاف السوريين الممنوعين من السفر. وعندما ركبت الطائرة، أول مرة في حياتي، كنت قد تجاوزت الخمسين من عمري. يومها شعرت أن كل من كانوا على متنها، قد لاحظوا كم كنت مرتبكاً.

"يموت ببطء من لا يقرأ" عن نفسي أيضاً ومئات الآلاف غيري من السوريين، فإن القراءة والمعرفة والتفكير عموماً، أودت بنا إلى السجون لسنوات

"يموت ببطء من لا يقرأ" عن نفسي أيضاً ومئات الآلاف غيري من السوريين، فإن القراءة والمعرفة والتفكير عموماً، أودت بنا إلى السجون لسنوات. لو طبَّقنا عملية حسابية بسيطة على حالتنا، لوجدنا أن مجموع المعتقلين قضوا في السجون السورية ملايين السنوات. هل أبالغ؟ احسبوها جيداً وسوف تصلون إلى ذات الرقم الذي وصلت إليه.

يضيف الرجل أنه يموت ببطء أيضاً "من يصير عبداً للعادة". ليتنا يا سيدي كنّا فقط عبيداً للعادة، لكان الأمر هيناً ومحتملاً. هم ذهبوا بنا أبعد من ذلك بأشواط. هنا سوف أستنجد بالكاتب والروائي اللبناني محمد أبي سمرا كي يعينني على تفسير ما قصدته بأنهم مضوا بنا أبعد. يتحدث أبي سمرا في مقدمة كتابه "موت الأبد السوري" عنّا فيجد أنّ "صمتهم لا ينطوي على الخوف من الرواية والخبر، بل على ما يمكن تسميته إرادة الخوف والكتمان المديدة، التي اجتثّت مقدرتهم على الخبر والرواية، وتركتهم يتعودون العيش في الصمت". أرأيتم؟ كيف لمن يتعود مرغماً على العيش في الصمت، أن يغير أياً من عاداته الأخرى؟

يضيف الكاتب "كأن حياتهم مطلبها الوحيد تحصيل القوت كفاف العيش. فالنظام الأسدي الذي تسلط على سوريا تسلطاً طغيانياً، حوّلها سجناً لمحو الذاكرة والخبر عن الحوادث والتأريخ، وقسر إرادة الكلام والتعبير، إما على الكلمات الأبدية للبعث والرئيس القائد، وإما على  التواصل الآني الوظائفي شبه البيولوجي".

هذا تماماً، ما أردت قوله، إننا بيولوجياً كنا موجودين، كما توجد كل الكائنات الحية، أما عن العيش كما كان يقصده نيرودا، وهو أمر مختلفٌ تماماً، فنحن ليس فقط لم نعش، بل ولم يُتح لنا أن نتعرف كيف يكون العيش الطبيعي للبشر العاديين.

وأخيراً "يموت ببطء من لا يجيد الاهتداء بعينيه". للحقيقة يمكنني القول هنا إننا حاولنا، لكنهم على مدى أكثر من نصف قرن، كانوا يهدّدون كل عين بالقلع لو رأت غير ما يرون. ومن تطاول ورأى بعين رأسه في بعض اللحظات، فإما أنه قُتِل أو أنه تعفّن في السجون.

هل يمكن الحديث عن مجموعة من الكوابيس المتلاصقة والمرصوفة بدقة إثر بعضها، على أنها كانت عيشاً للحياة؟ في المدرسة والجامعة كنّا خائفين. أمام الشرطي كنا نرتجف. وفيما لو حالفنا حظنا السوري، المشهود له بقتامة اللون، ودخلنا أحد فروع الأمن، فإننا كنا نصل إلى عتبات وحواف أنواع من الخوف التي لا يمكن لإنسان أن يتصورها، بينما ننزف دمنا بين أرجلهم.

يحق لأي أحد، في أيٍّ من البلدان، أن يقول إنه قد عاش ولو بنسب متفاوتة، إلّا السوري. لا أعتقد أن أحداً آخر في بلد آخر عايش مثلنا تلك الكوابيس وذاك اليأس المرير كلّه. مع ذلك، وكي لا أكون أنانياً، وباستثناءٍ أجده معقولاً جداً، لن أستغرب أن زميلاً من كوريا الشمالية، قد يستعير عنواني المسروق والمحرَّف، ويدّعي مثلي/مثلنا أنه لم يعش.

خلال حالاتٍ، من شطحات الخيال التي تصيبني، أفترض أحياناً أن حياتي كانت (بروفا) أوّلية فاشلة للعيش، وأعد نفسي أن أصلحها في المرّات التالية! أقول: ربما كان مروري الحالي في هذا العالم ينطوي على خطأ ما، أو كان فيه انزياح ما، ناتج عن خلل من تلك التي تحدث أحياناً في الحياة. لكن ما يشعرني باليأس الشديد، هو أن أحداً لم يستطع حتى الآن إقناعي واقعياً، بإمكانية أن أحظى/نحظى في حياة أخرى، بفرصة ثانية للعيش. فرصة ليس فيها كل هذه الشروط القاسية، وكل هذا العسف والحيف، وهذا الإحساس القاسي والمدمِّر، نتابع العمر هكذا منتظرين بصبر على مقاعد الاحتياط. ونحن نحلم بحياة أخرى، ربما كانت ستعوض عمَّا فات في الحياة الحالية.

"بالذبح جيناكم". أيٌّ من الأسدين الأب والابن، لم يقل ما يشبه هذا يوماً، لكنهما كلاهما عملا بموجبها على رقاب السوريين كل يوم خلال نصف قرن

واحدة من أهازيج جبهة النصرة التي ظهرت، مطلع عام 2013، كانت تخاطب كل مخالفيها، بروحٍ تفتقد لكل حسٍّ بشريّ سليم: "بالذبح جيناكم". أيٌّ من الأسدين الأب والابن، لم يقل ما يشبه هذا يوماً، لكنهما كلاهما عملا بموجبها على رقاب السوريين كل يوم خلال نصف قرن.

ينهي نيرودا كتابة مذكراته قبل أيام من وفاته نهاية شهر أيلول/سبتمبر عام 1973، أي بعد أقل من أسبوعين من الانقلاب الذي قاده الجنرال "بينوشيه". ويختم بالقول عن الانقلابيين العسكر: "لقد عادوا ليخونوا تشيلي مرة أخرى".

لو قُيِّض لي، أو لأي سوري ممن ولدوا في هذه الحقبة، أن يكتب مذكراته يوماً، لافتتحها بالقول: "ولدت وقد جاؤوا ليخونوا سوريا". عن نفسي، استعرضت كل إمكانيات وأنواع وصيغ الكتابة عن السيرة الذاتية، راغباً الوصول إلى نتيجة طالما حلمت بها، وهي أنني فعلاً قد عشت، لكني فشلت. لم يشأ السوريون بإرادتهم أن يولدوا ويحيوا فقط. كانوا لو أسعفهم المكان والزمان، كجميع البشر يريدون أن يعيشوا الحياة، وهو ما لم يحدث. يا للخيبة.