أشياء غريبة يقولها القراء في المكتبات

2019.10.17 | 19:38 دمشق

20191006_2_38600715_48254185.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقول بورخيس "لطالما تخيّلت الجنّة على هيئة مكتبة". ومن المهن التي يراها الناس غارقة في الرومانسية مهنة بيع الكتب، وهي مهنة جميلة لكنهم ينسون العيوب التي لا يخلو منها أي عمل في دنيا البشر. المكتبة عالم صغير ترى فيه اهتمامات الناس، وترى فيه هواجسهم وأسئلتهم، وأحيانا قلقهم، والأهم أذواقهم. بعد التعارف والتحية يرمي لك الزبون بسؤال عن كتاب يبحث عنه، أو سمع به. وهذا زبون سهل، لأنه يحيلك للذاكرة أو للكمبيوتر للسؤال عن المعلومة وعن توفر الكتاب أو عدم توفره. لكن الحالة الثانية هي عندما يرمي لك هذا القارئ بسؤال شخصي أو معرفي، وحينها تحاول أن تساعده.

هناك سؤال الحيرة الأدبية وهو طلب ترشيح رواية ممتعة، وأحيانا يطلب القارئ، إن كان تركياً يتعلم العربية في الكلية، أن تكون رواية سهلة بدون تعقيدات. هذا قارئ يحب الاستجمام، والقراءة بالنسبة له مستراح من الحياة الواقعية. أهم من ينقذك حين تجيب هذا القارىء هم الروائيون الذين يعرفون كيف يحكون حكاية لها بداية ونهاية وسرد ممتع، وهذا قول انطباعي مني. ساعتها أقف بهذا القارئ عند صف كتب "ستيفان تسفايج" وأحكي له عن رواياته، وأتوقف عند سيرته "عالم الأمس": أشرح له بعض ما جاء فيها، فهي من السير الذاتية المحببة لي. وإذا وقفت أمام صف الروايات فتجدر الإشارة إلى "سومرست موم"، فرواياته ينطبق عليه هذا المفهوم. وأحيانا يطلب مني رواية عربية لا مترجمة. لا بأس عندئذٍ أن أحكي له عن الروائيين المصريين الذين قرأت لهم، فأتناول رواية "الطنطورية" لرضوى عاشور أو روايتها الجميلة "فرَج" ودائما لا أجد رواية "ثلاثية غرناطة" التي تنفد من الرفوف سريعاً.

هذا القارئ المقبل على الروايات، ويريد قصة حلوة وهو مستعد لسماع ترشيحك لرواية يقرؤها، أُبعده عن الأكثر مبيعاً، فكل ما هو أكثر مبيعاً لا يعني أنه قيم بالضرورة، وإذا أعطيته عملاً رديئاً سيعود لك وتجد في عينيه لوماً. لكنني لا أفوت على نفسي وعليه فرصة أن أرشح له رواية من روايات نجيب محفوظ ليتعرف إلى عالم محفوظ البديع بحرافيشه وأبطاله.

إذا لمست في قارئي حب أدب السجون، أقوده إلى درب الآلام ليسمع أهات المسجونين، ويقرأ "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، أو يعرف "السجينة" لمليكة أوفقير، أو "القوقعة" تلك الرواية التي يحبها جمهور القراء السوريين. وللأدب السوري نصيب كبير من أدب السجون، فلدينا مذكرات فرج بيرقدار عن تدمر في "خيانات اللغة والصمت"، وقصص ياسين الحاج صالح عن القراءة في السجن في كتابه "بالخلاص يا شباب"، ونادراً ما يسأل القراء عن رواية "حمام زنوبيا" لرياض معسعس، ولعل السبب أنها رواية أدبية وليست مذكرات ذاتية.

إذا لمست في قارئي حب أدب السجون، أقوده إلى درب الآلام ليسمع أهات المسجونين، ويقرأ "تلك العتمة الباهرة" للطاهر بن جلون، أو يعرف "السجينة" لمليكة أوفقير، أو "القوقعة" تلك الرواية التي يحبها جمهور القراء السوريين

أحياناً أستعمل ترشيحات من أثق بذائقتهم، وأشرح للقارئ أنني لم أقرأ هذه الروايات، لكن سمعت أنها ممتازة وأتوجه لرف الروائي "ربيع جابر" الذي يحبه صديقي أحمد أبازيد، أو إلى رواية "فتاة من القرن الذهبي" لقربان سعيد التي رأيت صديقي يمدحها وهو متحمس، أو نقف على رف غادة السمان وأنصحه أن يمر بعينيه على كتبها ويلتقط ما يعجبه منها، والذي غالباً سيكون رسائل غسان كنفاني لها، فنحن البشر مولعون بالتلصص وكشف المستور وقصص الحب الخفية.

يدخل إلى المكتبة زبون متحمس، ويسأل هل لديك رواية "ماء الذهب"؟ أعصر مخي للعثور على راوية بهذا الاسم فلا أجد، وأسأل الكمبيوتر فيصدر صوتاً يدل على الغضب كأنه اعتراض، أطالب زبوني بتذكر الاسم فتكون الإجابة أنها رواية لكاتب مصري معروف، أضحك وأقول له تقصد رواية "تراب الماس" لأحمد مراد؟ هذا القارئ يذكرني بالموظف الذي دخل عليه يحيى حقي في أحد المصالح الحكومية فهش له وفرح وقال أهلا بالكاتب الكبير مؤلف رواية "لمبة الست نفيسة" فكاد يحيى حقي أن يلطم أو يضحك فالموظف يقصد رواية "قنديل أم هاشم".

وهناك من يصعِّب عليك السؤال ويقول "أريد رواية رعب عربية وليست مترجمة، ولكاتب مصري، وحبذا لو كانت بالعامية". سمع صديق لي هذا الوصف، وقال: من أين نأتي بهذا الطلب؟ وبحثت، ووجدت على الرفوف بعض النماذج الروائية التي تلبي طلب هذا القارئ، أو أنه يريد رواية مترجمة لكن قصيرة! ساعتها تنقذني رواية "راوية الأفلام" فهي قصيرة ولذيذة وتُقرأ في جلسة واحدة.

أحيانا أرى المكتبة تشبه الصيدلية يمكن البوح فيها بطلب ما لا نطلبه في الأماكن الأخرى بكل أريحية. يسأل قارىء عن سعر رواية "الزانية" لباولو كويلو، أو هل لديك "نطفة" لأدهم الشرقاوي، أو يقول لي قارىء: اشتريت رواية لم تعجبني، فأسأله فيقول لي رواية "شبقة" للكاتب الفلاني.

أحيانا أرى المكتبة تشبه الصيدلية يمكن البوح فيها بطلب ما لا نطلبه في الأماكن الأخرى بكل أريحية

وهناك زبوني التعس، فما إن يصدر كتاب، وتحصل عليه ضجة على وسائل التواصل حتى يسارع بشرائه. إنه مدمن على جديد روايات "دان براون" مؤلف شيفرة دافنشي، ويتابع كل حرف كتبه أدهم الشرقاوي، وروايته المفضلة "في قلبي أنثى عبرية" أو "أحببتك أكثر مما ينبغي"، هذا النوع من القراء يقتات على الروايات الرومانسية بداية من أثير النشمي وباولو كويلو إلى أحلام مستغانمي، وهو بالتأكيد ينتظر رواية "شهياً كفراق"، ورواية الخيميائي يكون في الغالب قد قرأها.

لا تلفت نظرة ال 10,000 عنوان في المكتبة، فقط يغضب أن "أربعون" للشقيري لم تصل، وأن كتاب "لا تحزن" قد انتهى من المكتبة، وأن "قواعد العشق الأربعون" غير موجودة، وهو بلا شك يقف أمام قسم التنمية البشرية كثيراً، ويحب منشورات دار جرير. لا حب للمغامرة والتجريب عند هذا النوع من القراء، يحبون المشاهير مثل المذيع علي نجم ويتبرمون من عدم تعرفك إلى رواية "إكستاتسي"، وإذا حمل اللاعب محمد صلاح كتاب "فن اللامبالاة" سيأتي ويسأل عنه. ولن يثيره العنوان الجميل لكتاب "قلق السعي إلى المكانة: الشعور بالرضا أو الإهانة" الذي يقف على نفس الرف. إنه محب للعناوين الفاقعة مثل كتاب نظرية الفستق والأب الغني والأب الفقير، وهو متابع لكتب أنتوني روبنز. لست ضد كل ما يوضع على رفوف التنمية البشرية فكتب مالكوم جلادويل لا ينطبق عليها وصف الخرافات، ونصائح ستيفن كوفي ليست دعاية كاذبة، وقصص ديل كارنيجي في كتابه "كيف تكسب الأصدقاء" أو "دع القلق" مأخوذة من حكمة الحياة، لكني ضد الكتب التي ترسخ الوهم.

وهناك القارىء الذي يبوح بما يشغل باله عن طريق السؤال عن كتب حول الموضوع، فمنهم من يسألك عن كتب عن الاكتئاب، أو كيف يصبح مليونيراً في أسرع وقت ممكن، أو كتب عن العضلات وبنية الجسم، وغالباً ما يكون مرتدياً الزي الرياضي وعائداً من النادي الرياضي، ووجد في المكتبة فرصة للمرور عليها والسؤال عن هذا الموضوع، فكما يقول جورج أورويل "متجر الكتب هو أحد الأماكن القليلة التي بإمكانك المكوث فيها لوقت طويل دون أن تنفق مالاً". ثم يستطرد أورويل - لأنه عمل بائعاً في إحدى المكتبات - فيقول "بعد حين يصبح المرء قادراً على التعرف إلى هؤلاء الأشخاص من لمحة"، ومقالة جورج أورويل عن ذكرياته في محل بيع الكتب من المقالات الممتعة بسخريته الجميلة.[1] ومن المعلومات الطريفة في المقال قلة حماسة القراء لكتب القصة القصيرة مقارنة بفن الرواية، وهي ملاحظة صائبة في عالم بيع الكتب.

بائع الكتب سيحظى بامتياز عظيم في هذه المهنة لو علم ما في باطن الكتب، فمعظم من يعمل في هذا المجال لا يقرأ الكتب، لكن الملاحظة الأهم في مقال أورويل أن كثرة الاحتكاك بعالم الكتب قد أفقده شغفه بها، وهذه ضريبة من ضرائب تلك المهنة، فقد شعر بالجفاء وهو يقول الأكاذيب ليروجّها أو يزيل الغبار عنها.

 

 

 

[1] منشورة في كتاب "لماذا أكتب؟" تحت عنوان ذكريات محل بيع الكتب.

كلمات مفتاحية