"أشوفك" رسالة ميشيل كيلو إلى عقاب يحيى

2021.07.07 | 17:55 دمشق

untitled.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن عقاب يحيى يمتعض عندما كانت تتوقف الكاميرا في موقع التصوير، كل ثلاث عشرة دقيقة كما يقتضي برتوكول برنامج الذاكرة السورية، الذي أعمل على إعداده وإنتاجه، كان السيد عقاب يسارع إلى علبة سجائره، فيشعل منها ما يتيح له الوقت قبل أن يعود إلى الموقع ويتابع حديثه المدعّم بذاكرة حاضرة وسريعة، ليحول التاريخ إلى حديث ودي، من دون ضغائن أو مواقف أيديولوجية. كان يروي ما شاهده وسمعه بدقة وتناسق، قبل أن تباغته فترة الفاصل التالية، ليستل علبة سجائره من جديد ويشعل منها ما يتيح له الوقت.. لم يكن عابئا بمرض أو سن وقد عاش عقودا تقارب الثمانية، تعامل معها بأخلاق دمثة وخفة ظل ومسؤولية في أثناء محاولة إدخال التاريخ في حديثه العادي مع الناس، حتى يستطيع محدثه التخمين كم أن عقاب يحيى يشتاق إلى رواية التاريخ بكامل تدفقه وهو شاهد على مفاصل تاريخية مهمة تشكل منعطفات أساسية في تاريخ سوريا، في سرد خبايا الذاكرة حتى خلال استراحة الفاصل، ينفث دخان السيجارة قبل مناداته لإكمال السيرة التي بدأها.

وهو شاهد على مفاصل تاريخية مهمة تشكل منعطفات أساسية في تاريخ سوريا

ولد عقاب يحيى في أيام الاستقلال عن فرنسا، فلم يع مرحلة العهد الوطني وما تبعها من انقلابات عسكرية متتالية، ولكنه كان مدركا وشاهدا واعيا لكامل فترة حكم حزب البعث في سوريا، فقد دخل عالم السياسة يافعا، وصار على اطلاع بما جرى منذ عام 1963 وحتى العام 1970، حين استفرد حافظ الأسد بالسلطة.. توجه معظم ذلك الجيل نحو اليسار، كان التأثر بالاتحاد السوفيتي عاليا، ولكن المنطقة العربية طورت أشكالا من اليسار ينتمي بالقرابة إلى التجربة السوفيتية، ولا يتبناها بشكل كامل، فقد كانت الحركات اليسارية في المنطقة حريصة على استيعاب العامل المحلي والتاريخي المرتبط بالإقليم، فاختار عقاب يحيى حزب البعث ويبدو أنه كان متشربا بأفكاره ومنخرطا في لعبة الولاءات التي كانت تتقاذف الحزب وخاصة بعد استيلائه على السلطة، كان عقاب قريبا من تيار صلاح جديد، الرجل ذو التجربة السريعة والغامضة في التاريخ السوري، لا يبدو حتى لحظة التقيناه قبل أشهر أنه كان نادما على خياره، رغم وعورة الطريق الذي سلكه، فقد انتهى جميع من كانوا من ذلك التيار في السجون والمنافي، ومن رفاقه من لم يخرج من السجن إلا جثة هامدة، كان نصيب عقاب يحيى عند قيام الأسد بانقلابه التخفي والتشرد، رغم صغر سنه، وغامر بإنشاء حركة سرية سياسية، على غرار ما كان سائدا في تلك الأيام، لينتهي به المطاف نائبا لرئيس الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، وزميلا سياسيا لصديق قديم هو ميشيل كيلو الذي سبق عقاب فغادرنا قبل شهر واحد، وهما زملاء في التوجه، ويحملان لقبا واحدا يفضل الجميع مناداتهما به هو "أبو أيهم"، ورغم أن كيلو لم ينتسب يوما للبعث ولا لأي حزب ولكنه كان ذا ميول يسارية واضحة.

كان نصيب عقاب يحيى عند قيام الأسد بانقلابه التخفي والتشرد

اختلفت تفاصيل تجربة ميشيل كيلو وعقاب يحيى، فعقاب عاش معظم حياته مغتربا تتقاذفه المنافي، أما كيلو فعاش في الداخل محاولا مخاتلة السلطة حينا، وممضيا سنوات في سجونها حينا آخر، وقد التقى الرجلان في مناسبات عدة دون أن يكون هناك اتصال مستمر.. روى لي ميشيل كيلو أنه كان يتهيأ للخروج من السجن حين طُلب منه إيصال رسالة إلى شخص يدعى عقاب يحيى يقيم في الجزائر، الرسالة مؤلفة من كلمة واحدة وهي "أشوفك". أوصل كيلو الرسالة بأمانة عن طريق شخص إلى عقاب، وحين سمعها عقاب، على ما يقول الرسول، هز رأسه دون أن يجيب حامل الرسالة بكلمة واحدة، ودون أن يفصح له عن معنى هذه الرسالة الغامضة، ولم يصر حامل الرسالة على معرفة المزيد، بل حصر مهمته بإيصال ما أراد كيلو إيصاله.

جمعهما العداء لنظام حكم جائر، نكل بميشيل كيلو وأودعه السجون، وشرد عقاب يحيى الذي وجد في الجزائر مأمنا له حتى العام 2006

ينتمي الرجلان إلى جيل واحد وإلى مدرسة فكرية واحدة، وإلى توجه سياسي متقارب، وقد جمعهما العداء لنظام حكم جائر، نكل بميشيل كيلو وأودعه السجون، وشرد عقاب يحيى الذي وجد في الجزائر مأمنا له حتى العام 2006، ولكن الرجلان كانا على موعد آخر فالتقيا بمناسبة الثورة السورية ضد بشار الذي نكن له جميعا العداء، تشاركا في عضوية الائتلاف، وتقاربا في الفكر، وقد تكون صداقة حقيقية من نوع جديد عقدت بينهما، وهما ما زالا على المبدأ القديم نفسه الذي شربه جيل الأربعينيات، هذا الجيل الذي وجد نفسه ومنذ بداية السبعينيات في مواجهة نظام مستبد.. طالت سنوات الثورة وتحولت إلى بيروقراطية ومساعدات، وهمّ إنساني، وبقي النظام رابضا على القلوب كحجر بازلتي.. توفي ميشيل كيلو قبل نحو شهر وتبعه عقاب يحيى، لا أعرف ماذا كان يشغل بالي خلال التصوير مع السيد عقاب فلم أسأله، في أثناء الفواصل، عن سر رسالة كيلو، ولم يعرف أحد معنى كلمة "أشوفك"، لعله استبطان من نوع خاص أوصله كيلو إلى يحيى في مناسبة خاصة ليوم حزين كهذا.