أسعد داغر: شاهد عيان على الانقلاب على السلطان عبد الحميد 1909

2020.07.17 | 00:01 دمشق

37f431a5-9e4c-455c-91fe-926fcde375d8.jpeg
+A
حجم الخط
-A

صدر عن المركز العربي كتاب "مذكراتي على هامش القضية العربية" لأسعد داغر، عبر سلسلة "طي الذاكرة"، تقديم وتحقيق خالد زيادة، قرأ خالد زيادة مذكرات أسعد داغر حينما كان يعد روايته "حكاية فيصل"، وساعتها تنبه لمقدار تماهي صاحب المذكرات مع القضية العربية التي نذر حياته من أجلها، وكانت إعادة نشر المذكرات في طبعة موثقة قد راودته منذ ذلك الحين، وهكذا أعيد نشر الكتاب بعد ستين عاماً على صدوره أول مرة.

نقف في هذه المذكرات عند لحظة مهمة وفريدة، عندما يصل أسعد داغر إلى إسطنبول لدراسة الحقوق. كان والده يفكر في إرساله إلى باريس للدراسة فيها، لكن أسعد لم يرتح لهذه الفكرة لا لسبب إلا لشعوره بأنه غير فرنسي، خصوصاً بعد إعلان الدستور العثماني وانتشار الروح الوطنية في البلاد.

يركب أسعد الباخرة التي كانت تقل نواب سوريا في "مجلس المبعوثان"، وكان السيد عبد الحميد الزهراوي أول من عرفه منهم، فقد شاءت المصادفة أن يجلس إلى جواره على المائدة. ورست الباخرة ونزل في فندق كروكر، وكانت الطريق غاصةً بالجند استعداداً لمرور السلطان عبد الحميد من قصر يلدز إلى دار البرلمان في جوار جامع آيا صوفيا، وقد استأجر أسعد غرفة مطلة على الشارع العام، وجلس ينتظر مرور الموكب السلطاني، ليرى ذلك الرجل الذي كان اسمه يلقي الرعب في النفوس.

وصل الموكب فهتفت الجماهير: "بادشاهم جوق ياشا" اي ليطل عمر السلطان، ورأى أسعد السلطان في عربته المكشوفه وهو يضع يده على قبضة السيف وأمامه الصدر الأعظم، وكان كاتبنا يفكر في هذا السلطان الذي ظل في سدة الحكم أكثر من ثلث قرن، كان يتأمل: هل سيصبر السلطان على الحكم الدستوري وينزل على رأي الأمة ويسير على إرادتها؟

يستمر أسعد في شهادته على حالة عاصمة الخلافة العثمانية في ذلك الوقت، حيث بقي جيش التحرير حول إسطنبول، وانتقل مجلس النواب إلى سان استيفانو، وقام أسعد بزيارة تلك المدينة ليرى انعقاد البرلمان ومحاولة عزل السلطان

بعد أشهر قليلة جاءه الرد كما يقول من خلال الثورة المضادة على الدستور، ففي ليلة 31 مارس/آذار 1909 قامت حركة مضادة يقول داغر إنها من تدبير السلطان عبد الحميد لتقويض العمل بالدستور، وقد رد السلطان عبد الحميد عن تورطه فيها لاحقاً. وتم اقتحام البرلمان وتحطيم مقاعده.كان أسعد يقطن في حي بك أوغلو، وهو حي السفارات، على مقربة من مقهى "توكتليان" حيث كان يجتمع رجال السياسة من عرب وغيرهم، وقد عرف منهم أن الاتحاديين وأحرار البلاد قرروا استرداد إسطنبول وإعادة الدستور بالقوة، وأن جيشاً كبيراً بقيادة محمود شوكت باشا زحف من سالونيك إلى العاصمة وجعل مقره بلدة سان استيفانو على مقربة من إسطنبول. يدعي أسعد داغر أن السلطان عبد الحميد قد أنذر بإطلاق المدافع من قصر يلدز على حي "بك أوغلو" حيث السفارات ومعظم الأجانب، إذا حاول جيش سالونيك مهاجمة العاصمة، تتبعت هذه المعلومة ولم أجدها في المراجع التي عدت لها، ولعلها من إشاعات تلك الفترة.

يستمر أسعد في شهادته على حالة عاصمة الخلافة العثمانية في ذلك الوقت، حيث بقي جيش التحرير حول إسطنبول، وانتقل مجلس النواب إلى سان استيفانو، وقام أسعد بزيارة تلك المدينة ليرى انعقاد البرلمان ومحاولة عزل السلطان، وجلس مع عبد الحميد الزهراوي وأسعد الشقيري، ثم انتظر خارج المقهى الكبير الذي عقدت فيه جلسة البرلمان، حتى يعرف نتائج تلك الاجتماعات، وخرج الزهراوي وقال له: عد إلى إسطنبول والزم غرفتك، واقض هذين اليومين في القراءة، الاتفاق على وشك أن يتم مع جلالة مولانا السلطان أيده الله، وعليك أن تحفظ لسانك ولا تتفوه بأي كلمة.

عاد أسعد إلى إسطنبول وعمل بما أوصاه به الزهراوي من المكوث في غرفته، وفي اليوم الرابع سمع دوي الرصاص وقصف المدافع، وخرج إلى الشرفة ليرى ماذا يجري، فإذا الجند يملؤون الشوارع على مدى النظر، فقد دخل جيش الاتحاديين إسطنبول لعزل السلطان عبد الحميد، واستمر دوي الرصاص وقصف المدافع إلى الساعة الحادية عشرة، ثم انقطع. وذهب مع جماعة من الناس إلى أقرب ثكنة دار فيها القتال وهي ثكنة تقسيم، وكان القتال بين جيش الاتحاديين وجيش السلطان عبد الحميد. وسقطت تلك الثكنة العسكرية، وضرب حصار حول قصر يلدز الذي يسكن فيه السلطان وقطعت عنه الماء والكهرباء، ثم وصل الاتحاديون إلى المقهى واحداً تلو الآخر، وكان أحمد نيازي أول القادمين وهو عضو في جمعية الاتحاد والترقي وأحد شخصيات الانقلاب، ثم وصل أنور باشا الذي سيصبح وزيراً للحربية للدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، وجاء بعده عزيز علي المصري، وجلس على مقربة منهم لتناول الطعام.

اجتمع البرلمان في المساء وانتدب ثلاثة من أعضائه لإبلاغ السلطان عبد الحميد بقرار الخلع، وبعد ذلك اليوم شاهد أسعد مع الجالسين في مقهى توكتليان عشرات من عربات السراي تقل مئات من الغانيات من قصر يلدز إلى جهة لم يعرفها، ثم يقول أن مظاهر الحيرة كانت بادية في ابتساماتهن ونظراتهن وحركاتهن، وكن في جهل تام بكل ما يجري، انتهت فتنة 31 مارس، وخلع السلطان وحل محله السلطان محمد الخامس.

يروي أسعد داغر خطة الحصار كما سمعها، فقد عهد إلى أنور بمحاصرة قصر يلدز ومنع السلطان من تنفيذ تهديده بضرب حي بك أوغلو، وعهد إلى مختار بك باحتلال ثكنة تقسيم، وقد قتل هذا القائد في المعركة، وكانت مهمة عزيز علي المصري احتلال محطة سركجي والاستيلاء على كوبري غلطه والثكنات القائمة على جانبيه والمنتشرة في طول الطريق إلى قصر دولمه بهجه، ثم يقول أسعد إن عزيز قد وفق في احتلال المحطة والكوبري والثكنات المجاورة له دون أن يطلق رصاصة أو تراق قطرة دم، إلا الثكنة التي كانت حول قصر دولمه بهجه والتي دخل في اشتباك معها، ثم احتل تلك النقطة وانضم إلى أنور في القتال عند ثكنة تقسيم، هكذا نرى المشهد عشية الانقلاب مشاركة من جندي عربي مع أشخاص أتراك.

عواطف داغر ناحية أنور أخذت تتضاءل مع مرور الزمن، ويرى أسعد أن الحرج قد زاد بين العرب والأتراك، بعد وصول زعماء تركستان إلى إسطنبول

في تلك الأثناء زار أنطون فارس إسطنبول قادماً من مرسيليا موفداً من بعض الأحزاب اللبنانية. وذات يوم دعاه الأستاذ فارس لزيارة أنور باشا وكان فى منتهى السعادة لرؤية أنور، لكن عواطف داغر ناحية أنور أخذت تتضاءل مع مرور الزمن، ويرى أسعد أن الحرج قد زاد بين العرب والأتراك، بعد وصول زعماء تركستان إلى إسطنبول، مثل أحمد أغايف ويوسف أقشورا، الذين ساهموا في نشر الدعوة إلى التتريك.

أنشئ المنتدى الأدبي العربي وأصبح عبد الكريم الخليل معتمداً للشبيبة العربية، وقد اهتم قادة الاتحاد والترقي طبقا لما يذكره داغر بمجاملة العرب، وكثر ترددهم على المنتدى الأدبي، فكان يزوره دائماً أنور وطلعت وفتحي ومدحت شكري وغيرهم من قادة الاتحاد والترقي، ومع ظهور فكرة التتريك انفصل عزيز علي المصري عن الاتحاد والترقي، ويشير داغر إلى أنه عقد مرة في منزله اجتماعاً كبيراً حضره معظم قادة الترك وناقش فيه فكرة تقوية السلطة العثمانية بتقوية كل عنصر من عناصرها وعدم تهميش العرب، لكن أحمد أغايف اعترض على هذه الفكرة. وقد حاول أسعد تقديم صورة عن شخصية عزيز المصري الذي سيصبح قائداً للجيش المصري في حكومة علي ماهر، وشرح معالم شخصيته وطريقته. وقد قدم عبد الرحمن بدوي نقداً قاسياً لهذه الشخصية في مذكراته. وتعرف أسعد داغر على الشاعر معروف الرصافي في إسطنبول حيث انتخب عضوا في مجلس المبعوثان، وعمل أسعد مراسلاً لصحيفة المقطم في إسطنبول، ويستمر في شرح تجربته في تلك المدينة وتعرفه على النخبة اليهودية التي كانت تود التعرف على العرب وفتح النقاش حول فلسطين في ذلك الوقت المبكر. ثم تنتقل المذكرات إلى تجارب أسعد داغر في المؤتمر العربي الأول في باريس، ورأيه في الثورة العربية الأولى وانتقاله إلى سوريا في عهد فيصل ثم بغداد وقصته مع نوري السعيد، هكذا تكتمل فصول شهادته على عصره.

يقدم أسعد داغر شهادته عن حالة إسطنبول في تلك الفترة، لكنها شهادة أقرب إلى الانطباع الشخصي والملاحظات، تخبرنا المصادر عن صراع كبير دار في أروقة الحكم العثماني، وهناك تجاهل لمعلومات تاريخية مثل عدم سفك السلطان عبد الحميد الدماء والسماح بتسليم قصر يلدز للانقلابيين رغم أنه كان يملك القوة الكافية لصدهم، ثم نهب القصر من قبل بعض العصابات واستصدار فتوى لعزل السلطان، والضغط عليه للنفي إلى سالونيك، رغم أنه طلب الإقامة في قصر جراغان وأنه يود الإقامة فيه منصرفاً عن الشأن العام وسيكتفي بالدعاء، لكن الطلب قوبل بالرفض وتم نقله إلى محطة قطار سركيجي وعزله ونفيه. ولما تحرك القطار كانت صفارته بمثابة إعلان عن نهاية حقبة، وبعيداً عن تفاصيل العزل كان خروج عبد الحميد يشبه النهايات الدرامية، فقد تم نقله مع بناته الثلاث وولديه وأربع جوار، وبكى السلطان وهو يغادر قصره. وانقلب الشعراء من مدح السلطان عبد الحميد إلى هجاء عهده والهجوم عليه، وتوافد على المدينة العديد من العرب لزيارتها بعد عزل السلطان مثل جورجي زيدان الذي سجل تفاصيل رحلته وكذلك رشيد رضا وغيرهم.